فقهاء الوسطية في مصر الليث بن سعد «1»
مجدى الكفراوى
مع مرور الأيام وتعاقب الأزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطي الذي أنارت به الدنيا فكنات مهدا للوسطية من خلال فقهائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته, حتي اصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية ، ورغم المحاولات التي تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الديني المصري إلا ان جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم ابية علي التشدد والتطرف
ويعد الأمام الليث بن سعد هو فقيه مصر الأول الذي وضع فقها جسد فيه معني الوسطية الصحيحين وكانت آراؤه نبراسا لمن يأتي من بعده في التعامل مع العديد من القضايا فقد قال عنه الإمام الشافعي الليث بن سعد، نصير الفقراء، وظهير الضعفاء، عزيز النفس، صافي الوجدان، كما قال «الليث أفقه من مالك إلا أن قومه أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به».
والليث بن سعد هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن إمام أهل مصر في الفقه والحديث، كان مولي قيس بن رفاعة، وهو مولي عبد الرحمن بن الد بن مسافر الفهمي وأصله من أصبهان، وكان ثقةً سريًا سخيًا، ولد في قرية قلقشندة من أعمال محافظة القليوبية بدلتا مصر سنة 94 هـ ، وكان أبوه من موالي قبيلة قريش قبل أن يصير مولي لقبيلة فهم.
شهادة العلماء
لقد شهد الكثير من كبار العلماء والفقهاء للإمام الليث بن سعد رحمه الله بنبوغه وكثرة علمه وفقهه فقال الشافعي رضي الله عنه: الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.
وقال الفضل بن زياد: قال أحمد: ليث كثير العلم، صحيح الحديث.
وقال أحمد بن سعد الزهري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الليث ثقة ثبت.
وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ليس في المصريين أصح حديثا من الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث يقاربه.
وقال علي بن المديني: الليث ثبت.
وكان ابن وهب تُقرأ عليه مسائل الليث، فمرّت به مسألة فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكا يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب للرجل: بل كأن مالك يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا أحدًا قط أفقه من الليث.
طلبه للعلم
تلقي الليث العلم عن كبار شيوخه في مصر، مثل يزيد بن أبي حبيب وجعفر بن ربيعة وغيرهما من المصريين، ومن غير المصريين أمثال نافع المدني، وعطاء بن أبي رباح وابن شهاب الزهري وسعيد المقبري وابن أبي مليكة وأبو الزبير المكي وعقيل ويحيي بن سعيد وغيرهم.
روي عن ابن بكير، حدثني الليث: سمعت بمكة سنة ثلاث عشرة ومائة من الزهري وأنا ابن عشرين سنة، قال يحيي بن بكير أخبرني من سمع الليث يقول كتبت من علم ابن شهاب علما كثيرا وطلبت ركوب البريد إليه إلي الرصافة فخفت أن لا يكون ذلك لله فتركته.
أقبل الإمام الليث علي العلم والتفكر وتحصيل الدرس منذ صباه الباكر، مرتادا الجامع الكبير الذي سمي باسم «جامع عمرو بن العاص» ليتلقي العلم علي يد أئمته وعلمائه الذين كان يتدارسون كتاب الله وأحاديث الرسول في هذا المسجد، وبذهنه المتقد وإرادته القوية وانفتاحه علي الثقافات العربية والمصرية القديمة والجديدة صار لافتا لنظر كل من لاقوه، وكان رضي الله عنه واسع الثقافة محبا للعلم بكل صنوفه وأشكاله فكان يتقن اللغتين العربية وهي لغة الإسلام والقرآن والحديث، بالإضافة إلي اللغة القبطية التي لم تكن قد اختفت بعد من الشارع المصري، كما كان يتقن اليونانية واللاتينية، وهو الشيء الذي جعل عقله بالتأكيد ينفتح علي الثقافات الأخري لينهل من علومها ويصقل تجاربه في الحياة والفكر والثقافة.
وقد أدرك الليث منذ وقت مبكر طبيعة الإسلام السمحة الرحبة المتعالية، فسعي جاهدا إلي اكتشاف أسرار القرآن والحديث بالتعمق في دراسة اللغة العربية وقواعدها، وهو ما أثني عليه الفقهاء فيما بعد، مدركا أن النصوص القرآنية والنبوية ليست حروفا ترص رصا، لكنها آيات الله المناسبة في الألفاظ لتخلق معاني تخاطب القلب وتهذب الروح، ولهذا حاول الليث أن يستقي اللغة من منبعها وهو الشعر العربي السابق علي الإسلام واللاحق له، وترك هذا التوجه في نفسه ميلا للفنون وحبا للشعر وتهذيبا في النفس، ويروي أنه ذات مرة كان يتبع عادته الأثيرة ممارسا هوايته المفضلة وهي التغني بأبيات الغزل ولما سمعه أحد شيوخ قال له «هذا مباح ولكن لا تفعله فسيكون لك في الفقه شأن»، ويبدو أن علم الليث وذكاءه المتقد جعل الجميع ينظرون إليه بإعجاب و«تعلموا الحلم قبل أن تتعلموا العلم» كانت تلك المقولة هي الأثيرة عند الإمام المصري الكبير، وقد قالها يوما وهو شاب يافع حينما كان حاول أن يمزج بين القول بالحديث والقول بالرأي فنهره شيوخه واحتدوا عليه، فقالها لهم ثم لازمته طوال حياته وكان كلما احتد خلاف ذكرها لمخالفيه، ولقد علم أحد مشايخه أن الناس يستفتونه، فيفتي، ويرضون عن فتياه فناداه وشجعه علي الإفتاء، ولما وجد منه ترددا لعلمه أن أصله ليس عربيا وإنما ممن يقال إنهم من الموالي قال الشيخ للفتي الصغير: إنما هو أمر الله ودينه فمن حفظه ساد ومن ضيعه سقط.
في مكة يلتقي الإمام الليث بن سعد بعلماء الحجاز ويعجب بشكل خاص بالشيخ الزهري وربيعة الرأي شيخ الإمام مالك الذي كان وقتها طالبا صغيرا فقيرا في العشرين من عمره، فيتعرف إليه الليث ويساعده علي المعيشة بأن يتحين الفرص لإمداده بالأموال، وفي الحقيقة فقد نمت علاقة خاصة بين الإمامين، ظهرت منذ بدايات العلاقة ويبدو أنهما كانا علي يقين من أن شأنهما سيعلو ومن أن اسميهما سيرتفعان، ولما رأي الليث ضيق حال مالك أخذ يمده بالمال ويعرض عليه المساعدات، وهو الشيء الذي استمر حتي بعد أن فتح الله علي مالك وأصبح من الميسورين، وكان كثيرا ما يراسله محدثا إياه بلهجة الأستاذ ليعارض فتواه مبينا أوجه قصورها بأدب جم وعلم سديد.
ويبدو أن ذكاء الليث وسرعة تحصيله جعلتاه يمتلئ بالعلم في وقت قصير وحالت دون تلمذته علي أيدي علماء الحجاز والعراق لعجزهم عن إضافة أي شيء جديد لمالك، حتي أن أحد الشيوخ ناظره وهو في العشرين فقال له الشيخ إن علمك علم رجل في الستين، وبرغم علمه الكثير الكثيف لم ينل الليث حظه من التقدير في زمن الدولة الأموية، فقد منعه ولاتها من الفتيا في المسجد الكبير لأن أصله ليس عربيا، ولأنه من الموالي أي من أبناء البلاد المفتوحة فكان يقول مستاء: ما ذنبي إن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون».
وبرغم ثراء الليث واتساع ثروته لكنه لم تستحق عليه زكاة قط ذلك لأنه كان لا يحتفظ بأموال لأكثر من عام، فكان يتخلص من المال وكأنه يبعد عن ثوبه عقربا، ويذكر أن امرأة طلبت منه امرأة رطلا من عسل لتعالج ابنها، في وقت شح فيه العسل، فأمر كاتبه أن يعطيها مرطا من عسل «والمرط نحو مائة وعشرين رطلا» فقال كاتبه: «سألتك رطلا أتعطيها مرطا؟» فقال الليث: «سألتنا علي قدرها ونحن نعطيها علي قدرنا»، وكانت له ضيعة بالفرما «قرب بورسعيد» يأتيه خراجها، فلا يدخله داره، بل يجلس أمام أحد أبوابها العشرين وقد جعل المال في صرر يوزعها جميعا صرة بعد صرة، وكان لا يتصدق بأقل من خمسين دينارا.. ذلك أنه كان يحسن استثمار أرضه، الواسعة الخصبة حتي لقد كانت تدر عليه نحو عشرين ألف دينار كل عام، فقد كان يحب الناس ويحب الحياة معتبرا أنه لا فائدة من أن تكون سعيدا وسط تعساء، ومن أجل ذلك نادي الليث بأنه ليس من حق أحد أن يحتفظ بمال إلا إذا بلغ الناس حد الكفاية والحكام وولاة الأمور مسئولون أمام الله عن أن يوفروا للناس جميعا حد الكفاية لا حد الكفاف، وحد الكفاف هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب، أما حد الكفاية فهو ما يكفي كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب، والمسكن الصالح المريح، والدواب التي تحملهم، والعلم الذي ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم، ولعل هذه الفتوي جاءت من اقترابه من الفقراء ومعاشرتهم وشعوره بمعاناتهم اليومية، فكانت الفتوي هنا انتصار للعدالة الاجتماعية بمفهوم العصر الحالي.
وبعد عناء مرير وصل الإمام الليث إلي كرسي الفتوي في المسجد الكبير، وكانت وقتها شهرته ذائعة بين الناس حتي أنه روي أن ربيعة الرأي أستاذ الإمام مالك لم يكن يخشي من مناظرة أحد قط إلا الإمام الليث، وهذا ما جعل الخليفة أبو جعفر المنصور يحاول أن يقربه منه عارضا عليه ولاية مصر التي رفضها متعللا بأنه لا يصلح، وهو ما دعا الخليفة إلي التنبيه علي كل وال يرسله إلي مصر وكل قاض بأن يراعوا الليث وأن يستشيروه في الأمور الجسيمة، رادا كل مكيدة تكاد ضده إلي صانعها.
وعلي هذا كان الإمام وبرغم بعده عن السياسة وأمور الحكم كان بمثابة ضمير مصر الفقهي والديني، ولذلك كان يخشاه الولاة، لأنه كان عليهم بمثابة الرقيب إذا ما قبلوا هدية كتب للخليفة أنه لا يتقون الله في الرعية، وحدث أن عاتب أحد المعزولين الليث بن سعد فقال: «نصحتك فلم تنتصح، ومصلحة الرعية أولي وما صبري علي ظلم الرعية؟»، ولأن الوالي المعزول لم يكن يملك إلا راتبه، فأجري عليه الليث راتبه من ماله الخاص، وبرغم محاولة الولاة والخلفاء التقرب منه الإمام لكنه لم يكن ليخفض من قيمته أمام حاكم فكان لا يذهب لوال أبدا، حتي إذا استدعاه أحد الولاء قال له: «ائتني أنت فإن مجيئك إلي زين لك ومجيئي إليك شين علي».