الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

أخلاق الهادى البشير




كتب: د. محمد مختار جمعة

لقد أرسل الله عز وجل نبينا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) رحمة للعالمين فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء107) ولم يقل: أرسلناك رحمة للمسلمين أو للمؤمنين، وإنما جعله رحمة للناس كافة، زكّى ربُّه لسانَه فقال : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وزكّى فؤاده فقال :{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، وزكى بصره، فقال : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}، وزكى عقله فقال : {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}، وزكى معلمه فقال :{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}، وزكّى خلقه فقال : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وزكّاه كلَّه فقال : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، ويقول سيدنا حسان بن ثابت (رضى الله عنه):

وضم الإله اسم النبى إلى اسمه إذا قال فى الخمس المؤذن أشهد

وشـــق لـه مـن اسـمه ليجــله فذو العرش محمود وهذا محمد

وقد كان خُلُقه (صلى الله عليه وسلم) القرآن، بل كان صلى الله عليه وسلم كما وصفته السيدة عائشة (رضى الله عنها) حين قالت : كان (صلى الله عليه وسلم) قرآنًا يمشى على الأرض، فقد كانت حياته (صلى الله عليه وسلم) وحركاته وسكناته تطبيقًا عمليًا لأحكام القرآن الكريم وتعاليمه، إذ كان (صلى الله عليه وسلم) يعطى من حرمه، ويصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، يمتثل لقوله تعالى : {ولَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت34 – 35)، وقد تجلى ذلك فى مواقف عديدة منها : ما كان منه تجاه أهل مكة يوم الفتح، وقد تحمّل منهم من الأذى ما تحمّل، فلمّا أتم الله عليه النعمة وأيده بنصر من عنده، ودخل مكة فاتحًا منتصرًا، خاطبهم بقولته الشهيرة : يا أهل مكة ما تظنون أنى فاعل بكم، قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم، فقال (صلى الله عليه وسلم) : ” اذهبوا فأنتم الطلقاء “.

ولمّا خرج (صلى الله عليه وسلم) بدعوته إلى الطائف بعد أن ضاق به السبيل بمكة رجاء أن يجد فى الطائف من يؤمن به أو حتى يستمع إلى دعوته أو يجد عندهم نصيرًا مما لحق به من أذى أهل مكة، فكانوا أشد وأقسى، وسلّطوا عليه عبيدهم وصبيانهم يرمونه (صلى الله عليه وسلم) بالحجارة حتى سال الدم من قدميه الشريفتين، فتوجه إلى ربه عز وجل بكلماته المشهورة بدعائه واستغاثته : اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى، وقلة حيلتى وهوانى على الناس، اللهم أنت ربى ورب المستضعفين إلى من تكلنى، إلى غريب يتجهمنى أم إلى عدوٍ ملكته أمرى، اللهم إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالى، ولكن عافيتك أوسع لى ”، وهنا نزل عليه جبريل عليه السلام يقول :يا محمد لو شئت لأطبقنا عليهم الجبلين أو أسقطنا عليهم السماء كسفًا، فقال صلى الله عليه وسلم : لا يا أخى يا جبريل، ولكن أقول : اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون، فقال جبريل (عليه السلام) : صدق من سمّاك الرءوف الرحيم ”، وذلك حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة 128).

وعندما دخل (صلى الله عليه وسلم) على خديجة مرتجفًا فى أول نزول الوحى، قالت له : يا ابن أخى والله لن يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتقرى الضيف، وتحمل الكَلّ، وتنصر المظلوم، وتُعين على نوائب الدهر.

ومن مظاهر رحمته – صلى الله عليه وسلم – ما كان منه عليه الصلاة والسلام حين قرأ قول الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام :{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(المائدة118) وقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : {فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (إبراهيم36) فخرّ (صلى الله عليه وسلم) ساجدًا وبكى، فأرسل الله عز وجل جبريل عليه السلام – وهو سبحانه وتعالى أعلم بحال نبيه – فقال : يا جبريل اذهب إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) وقل له : السلام يقرئك السلام، ويقول لك : ما يبكيك يا محمد ؟ فقال : (صلى الله عليه وسلم) : يا رب أمتى أمتى، فعاد جبريل إلى ربه فأخبره بما كان – وهو سبحانه وتعالى أعلم بحال نبيه (صلى الله عليه وسلم)، فقال المولى عز وجل لجبريل عليه السلام : اذهب إلى محمد فقل له يا محمد : إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوؤك، وفى حديث الشفاعة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) يسجد تحت عرش الرحمن ويقول : ” يا رب أمتى أمتى، فيقول: رب العزة يا محمد ارفع رأسك، واشفَعْ تُشَفَّع وسَلْ تُعطَ، أنت تقول : أمتى أمتى، وأنا أقول : رحمتى رحمتى، ولسوف يعطيك ربك فترضى ”.

وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة فى كل مظاهرها، فقال – صلى الله عليه وسلم- : ” إن الرحمة لا تنزع إلا من شقي”، وقال – صلى الله عليه وسلم – : “الراحمون يرحمهم الله ”، وقال صلى الله عليه وسلم: ” إنّ الرفق لا يكون فى شيء إلا زانه، ولا ينزع من شىء إلا شانه ”.