
عصام عبد الجواد
خذ بطانية اليوم.. وأحينى غدًا
هناك فارق كبير بين أن تفعل الخير من أجل أن تريح ضميرك، وأن تصنع خيرًا ليرتاح ويسعد من تفعل به هذا الخير، تلك هى المعضلة ومنطقة اللبس التى يعيش فيها مجتمعنا - عن غير قصد طبعا - يفعل الناس ذلك بعاطفية شديدة، فى حين نحن فى أشد الحاجة إلى فعل الخير بعقلانية ووعى كاملين.
فقد انتشرت ظاهرة حميدة هذه الأيام، سواء من قبل الجمعيات الخيرية أو من خلال رجال الأعمال والقادرين وجمعيات المجتمع المدنى، ألا وهى توزيع البطاطين على المحتاجين فى القرى الفقيرة الأكثر احتياجًا، خاصة فى الصعيد التى لا يعرفها أحد، أو بمعنى أدق قد نستها الحكومة، وتركتها فريسة للفقر والإهمال، وانتشرت داخل هذه القرى الأسر التى لا تمتلك حتى بطانية واحدة تقيها برد الشتاء.
وعندما يقوم الإعلام بتسليط الضوء على هذه القرى، يسارع الجميع بإرسال البطاطين لتوزيعها على الفقراء هناك، والتقاط الصور أمام عدسات التليفزيون وهم يقومون بتوزيع البطاطين! وهناك مَن يفعل ذلك فى الخفاء أيضا وبدون إعلان عن هذه الحملات الخيرية.
إن «سيدة الكارتونة» التى تناولت وسائل الإعلام صورًا لها فى الأيام الأخيرة، وهى جالسة فى صندوق من الورق المقوّى لتحتمى به من البرد، أثناء بيعها الجرجير فى الشارع، وقد بلغ بها العمر أرذله، لم تكن حالة فردية، بل هناك آلاف مثلها فى قرى كثير لا يعرف عنهم أحد شيئا.
لقد تحولت تلك السيدة إلى رمز يسارع أهل الخير للتبرع لها، لكن الأهم من التبرع بالبطاطين أو حتى بناء المنازل لهم، أن نقيم لهؤلاء مشروعات صغيرة يستطيعون العمل بها لتحسين مستواهم المعيشى، أن ندفعهم للستر بتوفير مصدر رزق دائم لهم، يقومون من خلاله بالمساهمة فى الإنتاج، ولا نكتفى بتوزيع الأغطية الشتوية عليهم فقط، فالبطانية قد تشعر هؤلاء الفقراء بالدفء لعدة شهور، إلا أنه عندما يأتى الصيف سوف ينحون جانبا البطاطين عن أجسادهم الهزيلة ليبقوا فريسة للجوع والعطش.
هناك قرى كثيرة فى الصعيد لا يجد أهلها أى دخل للأسرة، تستطيع أن تنفق منه على معيشتها، بل تنتظر المعونات التى يدفعها لهم أهل الخير، سواء فى الشتاء أو عند قدوم شهر رمضان، هؤلاء يحتاجون إلى نظرة مختلفة عن نظرة البطاطين السائدة، نظرة أكثر عمقًا لمشكلاتهم المزمنة. فإقامة المشاريع الصغيرة لهم واجب مجتمعى، حتى يستطيعوا أن ينتجوا ويتربحوا من عرق جبينهم، ويحسّنوا من أحوالهم المعيشية، بعد أن كاد يقضى الفقر والإهمال على مستقبلهم ومستقبل أولادهم، وفروا لهم مصدر رزق مستديماً، ودعوا لهم مهمة شراء البطاطين لأنفسهم، خففوا العبء عن الدولة ولو قليلا، أنتم بمشاريع صغيرة لهؤلاء، ودعوا الدولة توفر لهم ما يحتاجون فى المقام الأول وهو إقامة وحدات صحية لعلاجهم من أمراضهم، وكذلك بناء مدارس لتعليم أولادهم.
قد يسأل البعض: كيف يمكن توفير مشروعات فى هذه القرى الصغيرة؟ والإجابة سهلة وبسيطة. نستطيع تحقيق ذلك بتحويل تلك الرقع الجغرافية إلى قرى منتجة، من خلال مشاريع صغيرة، مثل مشروعات مزارع الدواجن الصغيرة، أو زرائب للأبقار والأغنام، وغيرها من الأعمال التى لا تزيد تكلفتها للأسرة الواحدة على عشرة آلاف جنيه.
على الجانب الآخر لا بد أن تفى الحكومة بما وعدت به أمام الرئيس عبدالفتاح السيسى، خلال مؤتمر الشباب بأسوان، بأنها جادة فى تنمية الصعيد، من خلال إقامة المشروعات العملاقة فى محافظات الجنوب المصرى، التى يمكن لها أن تؤتى ثمارها بالقضاء على الفقر والجهل، وتحويل الأسرة الفقيرة إلى أسرة منتجة، قادرة على أن تكفى نفسها، ولا تنتظر يد العون من أحد.
إنّ ترك هذه القرى فريسة للفقر والجهل سوف يحول الشباب المحروم الذى يعيش فيها إلى طريق أشد خطورة، عندما لم يجد أمامه إلا الانحراف إلى عالم المخدرات أو الانزلاق إلى هوّة الإرهاب والتطرف، وهو خطر حقيقى على المجتمع المصرى، لا يمكن للبطاطين أن توقفه.