
د.داليا المتبولى
لا يرفرف علم مصر إلا على أيدى العارفين بقدره
منذ عقود، لم يكن الفن فى مصر مجرد أغانٍ تُسمع أو مشاهد تُرى. كان الفنّ هو المرآة الصافية التى يرى فيها العالم ملامح مصر، روحها، تاريخها، رقتها، وصلابتها. حين اعتلت كوكب الشرق مسرح الأوليمبيا فى باريس، لم تكن تغنى فقط، بل كانت تمثّل مصر كلها؛ مصر التى تقف شامخة، أنيقة، راقية، واثقة من نفسها. حينما انحنى الأوروبيون إعجابًا بصوتها وصورتها، كانوا فى الحقيقة ينحنون لتاريخ طويل من الحضارة، كانت هى امتداد له، وكانت صورتها جزءًا من الهوية الوطنية التى لا تُمس.
ثم جاء زمن اختلطت فيه الأمور، وسادت فيه فوضى القيم، واختلط فيه «الترند» بالفن، والشهرة بالمبدأ، حتى خرج علينا من يرفع علم مصر وهو يرتدى ما لا يمتّ للفن أو الاحترام بصلة، من الطبيعى أن يكون لكل عصر شخصيات تُميزّه، لكن المؤسف أن يصبح بعض هؤلاء الأشخاص عبئًا ثقيلًا على سمعة الوطن، بدلًا من أن يكونوا إضافة حقيقية تُذكر.
ما حدث فى مهرجان كوتشيلا بأمريكا ليس مجرد «إطلالة جريئة» كما وصفها البعض، بل هو تشويه متعمَّد لصورة مصر فى المحافل الدولية. رفع علم مصر فعلٌ نبيل، لكنه حين يُمارس بيدٍ لا تعرف قدره، يصبح مُهانًا. لم يكن العلم يومًا مجرد قطعة قماش بألوان ثلاثة، بل هو دماء شهداء، وتاريخ أمة، وشعار كرامة. فكيف يُرفَع فى محفل دولى بينما يرفرف فوق بدلة لا تليق لا بفنان ولا بمواطن عادي، ناهيك عن كونه رمزًا يُفترض أنه واجهة لبلدٍ عريق!
هذا ليس هجومًا شخصيًا، فليست الأسماء هى ما يعنينا، بل الأفعال. نحن لا نرجم شخصًا، بل نرفض سلوكًا يُسيء إلينا جميعًا. ما فعله محمد رمضان لم يكن فقط ذوقًا فنيًا محلّ خلاف، بل كان خروجًا عن تقاليد مجتمع بأكمله، والمصيبة الكبرى أن هذا الخروج تمّ على أرضٍ أجنبية، وبين جمهور أجنبي، وفى لحظة تُرصد فيها صورة مصر عبر الكاميرات والشاشات والهواتف، أى وجهٍ قُدّم عنّا إذًا؟ وأى صوت نُقل للعالم عنّا؟
فنانو مصر هم القوة الناعمة التى تمثل وجه الوطن أمام العالم، وعليهم أن يُدركوا جيدًا أنهم لم يعودوا مجرّد أفراد يعملون فى مجال الفن، بل أصبحوا فى موقع التأثير والتمثيل العام، كل كلمة يقولونها، وكل موقف يتخذونه، لا يُحسب عليهم وحدهم، بل يُنسب إلى مصر، الوطن الذى يحملون اسمه ويُرفرف علمه فوق رءوسهم فى كل محفل.
إن من يَرفعون لواء الفن فى مصر، لا يملكون لأنفسهم حرية مطلقة إذا ما صاروا فى موضع التأثير والتمثيل العام ، فالفنان، حين يغادر كواليس المسرح أو تنطفئ عنه أضواء الكاميرا، لا يعود إنسانًا عاديًا، بل يصبح سفيرًا لوطنه، شاء ذلك أم أبى. وكل ما يصدر عنه من فعل أو قول يُحتسب على البلاد قبل أن يُنسب إليه، ولهذا، فإن أخطأ أو أساء التصرّف، فليس فى الحساب حقد ولا فى العتاب حسد، بل هو واجب تمليه الوطنية، وتفرضه الأخلاق، وتستوجبه الغيرة على صورة مصر أمام العالم.
المشكلة أننا نعيش فى عصر صار فيه “الترند” إلهًا يُعبد، يسير البعض خلف الشهرة ولو على حساب الكرامة، يحاولون افتعال الجدل ولو كان الثمن هو سمعة أمة، هذه الشهرة السريعة لا تشبه مجد عبد الحليم حافظ، ولا عراقة أم كلثوم، ولا وقار شادية، ولا موهبة سعاد حسني، فهؤلاء لم يبحثوا عن الضوء، بل صنعوه، أما اليوم فبعضهم يتسكع تحت أضواءٍ مصطنعة، على مسارح أجنبية، مرتديًا ما يخجل الآباء من أن تراه أعين أبنائهم، ثم يقول: “ أنا أمثل مصر”.
لا، أنت لا تمثلنا، ولا تُمثل هذا الشعب الذى صبر على الفقر ولم يبع كرامته، والذى خرج فى ثوراته يهتف باسمه وباسم بلده، والذى يعرف أن الفن رسالة لا عرض أزياء، نحن لا نرفض الجرأة، ولكننا نرفض الابتذال، نحب الإبداع، لكننا نكره التعرّى باسم الفن، نُقدّر التجديد، ولكننا نرفض السقوط.
إنّ ما نطالب به ليس إقصاءً ولا محاكمة شخصية، بل مساءلة مهنية وأخلاقية من نقابات يجب أن تكون على قدر مسئوليتها، لا أن ترفع يديها وتقول: “لسنا الجهة المختصة”، متى صارت النقابات أداةً للترخيص فقط؟ ومتى أصبح الفن سلعةً بلا ضمير؟ الدولة التى تحمى حدودها بالسلاح، يجب أن تحمى صورتها بالفن، فالخطاب الثقافى لا يقل أهمية عن الخطاب الأمني.
نحن نطالب بردع حقيقي، ليس فقط لمحمد رمضان، بل لكل من يتخذ الفن وسيلة للعبث بصورة الوطن، فكما تحاسب الدولة من يرفع السلاح على أمنها، يجب أن تحاسب من يرفع رايتها فى محفل دولى بطريقة تُهين تلك الراية، لأن الإهانة هنا لا تصيب فردًا، بل تصيب شعبًا بأكمله، وتفتح الباب لمن يتربصون بنا للنيل منّا بحجة “حرية التعبير” التى لم تكن يومًا حريةً فى انتهاك الذوق العام.
مصر التى علمت العالم الحُب والشعر والموسيقى لا تستحق هذا الانحدار، مصر التى خرج من رحمها طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف شاهين لا تليق بها هذه الصورة الكاريكاتورية فى الخارج، مصر التى يقف فيها الأطفال للنشيد الوطنى كل صباح، لا يجوز أن يُرفع علمها فوق استعراض لا يُقدّم شيئًا سوى مزيد من التهريج.
على الدولة أن تتدخّل، لا من باب الرقابة الظالمة، بل من باب الحماية العادلة، وعلى النقابات أن تعود إلى دورها الحقيقي، لا أن تكون مجرد ختم إدارى على تصاريح لا تعرف أين تُستعمل، وعلى الإعلام أن يكفّ عن تلميع مَن لا يستحق، فليست كل شهرة نجاحًا، وليست كل حفلة إنجازًا.
إن لم نغضب الآن، فمتى نغضب؟ وإن لم نرد الآن، فمتى نرد؟ إنّ صمتنا هو ما يدفع البعض إلى تكرار الإساءة، ورضانا هو ما يجعلهم يتمادون فى احتقار الذوق والمبدأ والانتماء، هذه لحظة صدق مع النفس، لا مجال فيها للمجاملة، ولا مكان فيها للصمت.
لذلك نقولها بوضوح: علم مصر لا يُرفع إلا بأيدٍ تعرف قدره، ولا يُمثّلها إلا من يوقر ترابها. فمن لا يحترم بلده، لا يستحق أن يتحدث باسمها. ومن يرى فى جسده رسالة أهم من قضيته، فليعلم أن جسده زائل، لكن الوطن باقٍ، والكرامة لا تسقط بالتقادم.