
عصام عبد الجواد
انتبهوا.. المجتمع يفسد من الأسرة!
هناك وجهة نظر تقول: "إن تسليط الضوء على الفساد ـ أحيانًا ـ يكون مضرًا بالدولة، كونه قد يخلق رأياً عاماً تشاؤميا" رغم وجاهة الفكرة، إلا أننى أرى أن ما تقوم به الرقابة الإدارية والأجهزة المعنية لمكافحة الفساد يدل على أن الدولة ماضية فى كبح جماحه والقضاء عليه، من أجل بناء دولة قوية، يستطيع كل فرد فيها أن يحصل على حقه كاملًا.
ورغم التقدير والثناء على كل ما تقوم به أجهزة الدولة فى مكافحة الفساد، بإلقاء القبض على جميع أطرافه، إلا أننى أرى هذا ليس كافيًا، لأن الفساد أصبح أكبر وأشمل من القبض على عدد من الأشخاص، مهما كانت مناصبهم أو مواقعهم، فالفساد فى مصر أصبح أسلوب حياة، كل واحد يحلله ويحرمه حسب مقدرته واحتياجه له، إلى أن أصبح الفساد يعشش فى كل مؤسسة، أو هيئة، وأحيانًا فى بعض البيوت، وتطور الأمر لينتقل من العاصمة إلى القرى والنجوع.
لقد دمج الفساد فى ثنايا حياتنا، فاتخذه البعض سبيلا وحيلة للحصول على حق ليس بحقه، بمساعدة آخرين، ينظرون للفساد على أنه أمر مشروع لا عيب فيه!
فى الريف مثلا، وتحديدا فى قرى الصعيد، أضحى الفساد يتفشى بين أبناء القرية الواحدة، بعد ظهور معاش "تكافل وكرامة" الذى قرره الرئيس عبدالفتاح السيسى للأسر الأشد فقرًا، وهو يتراوح من 400 إلى 500 جنيه، يحصل عليه رب الأسرة عن طريق بحث اجتماعى من الشئون الاجتماعية، يؤكد عدم وجود دخل آخر لهذا المواطن، وأنه يستحق للمعاش. المفاجأة أن عددًا ممن حصلوا على هذا المعاش هم من أصحاب الأراضى والمحال التجارية فى قراهم، تحايلوا على القانون للاستيلاء على اموال الدولة، بالاتفاق مع العاملين أو المسئولين عن البحث الاجتماعى! بعد أن قاموا بالتنازل عن الأرض أو المحال التجارية لأحد أقربائهم ـ مقابل حصوله على ضمان عدم التصرف فى هذه الأموال ـ ليصبح هذا المالك أو ذاك التاجر ـ فى ليلة وضحاها ـ من الفقراء الذين يستحقون معاش "تكافل وكرامة"!
هذه الحيلة، وإن كانت تقع فى نطاق محدود، إلا أنها بدأت تنتشر بشكل كبير فى المناطق النائية، وكأن مال الحكومة، أو بمعنى أدق مال الفقراء، أصبح مستباحًا لمن لا يستحق!
قد يرى البعض أن هذا النوع من الفساد لا يستحق الإشارة إليه، كونه محدودًا ولا يقوم به عدد كبير من الناس، وأقول لهؤلاء، إن الخطورة فى هذا الأمر أن الفساد هنا بدأ من الأسرة، وعندما يجد الفساد مكانًا له فى بيت يبدأ فى التوسع السرطانى، فينتقل من طفل إلى طفل، ومن شاب إلى شاب، ومن شخص إلى شخص، ومن بيت إلى بيت، إلى أن يصبح المجمع كله قد شبّ على الفساد.
إن الفساد فكرة وطريقة، والأفكار إذا لم تواجه فى بدايتها سوف تتغول وتستفحل وتدمر المجتمع بالكامل، انظروا إلى "فكرة" التطرف، التى يعانى منها العالم أجمع وليس دولة أو قرية بعينها.
أذكر أنه فى فترة التسعينيات، انتشرت ظاهرة غريبة فى القرى والنجوع، وهى قيام أصحاب الأراضى الزراعية بالتبرع بقيراط من أرضهم ـ وقتها كان ثمن القيراط الواحد لا يتجاوز خمسة آلاف جنيه ـ يفعلون ذلك بدعوى بناء مسجد من أجل الخير، فى حين هو يستهدف من وراء ذلك أمرين، الأول، تعيين ثلاثة من أبنائه أو أقاربه فى وزارة الأوقاف، بعد قيام الوزارة ببناء المسجد على نفقتها، ليكون راتب الواحد فيهم لا يقل عن ألف جنيه شهريًا، أما الهدف الثانى فيكمن فى تحويل باقى الأراضى الزراعية حول المسجد إلى أراضى مبانٍ! وبذلك يرتفع سعر قيراط الأرض ليصل إلى أكثر من ثلاثين ألف جنيه بدلًا من خمسة آلاف فقط. وقد استشرت هذه الحيلة لدرجة أن بعض النجوع ـ التى لا يزيد عدد سكانها على ألف نسمة ـ وصل عدد المساجد بها أكثر من ثلاثين مسجدًا، أغلبها مغلق، ولا يجد من يصلى فيه!
أيضا فى فترة الستينيات، والسبعينيات كان فساد الضمير يقود بعض الأسر المصرية إلى قيام الأب بتطليق زوجته، ليحصل على وثيقة الطلاق ليقدمها لإدارة التجنيد حتى تعفى ابنه الأكبر من التجنيد فى القوات المسلحة، بحجة أنه عائل لأمه وإخوانه الصغار، رغم أن الزوجة ما زالت فى بيت زوجها ولم تفارقه ولو للحظة.
هذه نماذج من فساد الضمير داخل الأسر المصرية، التى تقودنا بالفعل إلى فساد أكبر داخل المصالح والهيئات الحكومية، لأن أصحابها تربوا على الفساد من الصغر، والأمثلة طبعًا أكثر من ذلك بكثير.
لذا نحن فى أشد الاحتياج إلى مكافحة الفساد داخل الأسر المصرية، وهذا يبدأ من المؤسسة الدينية، والمدرسة، ووزارة الثقافة والإعلام، لتصويب وتصحيح معنى الضمير الإنسانى لدى أبنائنا الصغار، حتى نتخلص من الفساد الذى عشش فى كل شىء، ونستطيع أن نكوّن مجتمعًا خاليًا من الفساد والمفسدين.