السبت 21 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«سعاد» و«حليم»

«سعاد» و«حليم»






تمنيت لو كانت هناك طريقة أخرى أكثر جنونا وجنوحا وجموحا لكتابة المقالات الصحفية كىّ يصبح هذا المقال - تحديداً - أغنية للقلب، أو يصير أنشودة للوجع، أو ترنيمة توقظ الموتى العاشقين، أو سيرة لقصتنا سوا، تمنيت! لو كانت للكلمات دندنات النغم وريشة وألوان طيف، وطعم الماء فى فم الذين انزلقوا إلى التيه بلا زاد.
كيف يصف المقال بدقة هذا الفيديو الإستثنائى الذى شيره يوم الجمعة الماضى موقع عشاق عبد الحليم حافظ لحفل يغنى فيه العندليب أغنية «الحلوة» وتقوم بتقديم الحفل السندريللا سعاد حسنى؟ شفت إزاى؟ لأ ولسه كمان، ففى ليلة واحدة حصد الموقع 2 مليون مشاهدة، فى الحقيقة لقد حصد وأحصى أعمارنا، وردنا لأزمة كنا نسيناها، وخلخل تحت الخطى الثقيلة أرضاً ما أوصلتنا، ولا أرشدتنا، ولا ردتنا لأحلامنا، لكننى بكيت، وكان دمعى كفيلا بالكتابة بدلاً من أصابعى.
سعاد وحليم. قصة غرام حلوة، قصة بلد كان الفن العظيم فيه «يشغى» فى ضمائرنا كما تفعل الكائنات الدقيقة فى غيطان القمح، فكيف وصلنا لقاع الجب المسكون بالحيات؟ كيف تسرسبت منا الأغانى لتستعمر حناجرنا عويل الغربان؟
ظهرت سعاد فجأة على المسرح بفستان شيفون أسود مطرز حول الديكولتيه الواسع ليبدو منه وجهها القمر فى ليالى الحزن، شعرها الأسود اللامع القصير الذى طيرته الريح وحركة رقبتها وخجلها البادى حتى فى صوتها المتهدج وهى تنطق بكلمات تسع (9) وكأنها شهرزاد وقد قصت علىٰ الحاضرين حكايا ألف ليلة وليلة، قالت سعاد: (نقدم لكم دلوقتى مطربنا العاطفى، البلبل الأسمر عبدالحليم حافظ).
اسمع معى سعاد وهى تقول البلبل الأسمر، ولم تقل كما سميناه جميعاً العندليب الأسمر، هل يشى ذلك بشىء؟ يقيناً نعم، هكذا كانت تنادى الحبيبة حبيبها حين لا يسمعها سواه، هذهِ أول الدلائل علىٰ حقيقة الحكاية التى ظلت بين اليقين والعدم، «سعاد وحليم كانوا بيحبوا بعض»، هل شاهدت الملامح الأولى للبلبل الأسمر بعد أن قدمته السندريللا بكلمات تسع موجزات دالات؟ وجه المرتبك المربد، ابتسامته الخجلى، «ريقه الناشف» لسانه الذى كان يستجدى نهر السراب فى صحراء روحه، ثمّ وهو الأهم هنا، هذا الحفل قد وضح ووضع حدا لما تناقلته الصحف أيامها عام 1962 أثناء تمثيل وبعد عرض فيلم الخطايا الذى تضمن ضمن اغنياته هذهِ الغنوة التى كتبها مرسى جميل عزيز ولحنها كمال الطويل، كانت الصحف تتحدث عن قطيعة حدثت بين سعاد وحليم بسبب هذا الفيلم الذى كانت مرشحة له السندريللا واعتذرت لما تهرب حليم من الاعتراف بقصتهما معا، فكان أن لعبت نادية لطفى الدور، لكن تقديم سعاد حسنى لهذهِ الغنوة تحديداً والتى تقول كلماتها: (الحلوة برموشها السودة الحلوة، شغلتنى نادتنى خدتنى، ودتنى بعيد وسابتنى)، غنوة يقيناً لا تصف عيون نادية لطفى، كان ظهور سعاد فى حفل حليم يعلن أنها السمراء حلم الطفولة، حلم العمر كله، فما كان بعدها فى حياة حليم إلا بددا، سرابا، وحكايا مصنوعة، بالتأكيد هناك أصدقاء مشتركون للسندريلا والبلبل الأسمر ينفون أى علاقة عاطفية بين الطرفين، ربما هذا ما صنع أسطورتهما، صنع ديمومة الحكاية، منحنا نحنُ حق السرد والتحليل والتأويل والتأليف أيضاً، فأين الحقيقة؟ ولماذا لا تخرج علينا الفنانة العظيمة نادية لطفى لتقطع الشك باليقين وتحكى هذه الحكاية؟ وتقول لنا لماذا لم تكن سعاد بطلة الخطايا وأبى فوق الشجرة؟ ولماذا مات البلبل والسندريللا وحيدين فى الغربة، فى ذات البلد البارد القارس طقسه وحكومته؟ ولماذا قتلوا سعاد فى نفس يوم ميلاد حليم 21 يونيو؟
كيف فعل فينا هذا الفيديو ما فعله؟ كيف كشفنا وعرى اسرارنا المدفونة تحت طبقات الأرض السبع، المخبوءة تحت أكاذيبنا، حكاية «سعاد وحليم» مثلها مثل حكايات «حسن ونعيمة»، «قيس وليلى»، «روميو وجوليت»، هى نفس حكاوينا المبتورة المقبورة، حكايات زمن قد ولى وتركنا فى العدم.