
د. طارق الغنام
الثقافة المصرية.. بين الماضى والحاضر
يعد قدماء المصريين من أقدم الشعوب التى عرفت القراءة والكتابة وقدرت العلم والعلماء، وتشير آثارنا إلى أن الكاتب المصرى القديم كانت له مكانة رفيعة وأنه كان أول من كتب القصة، وأول من أمسك بالقلم، وهذه المكانة وإن كانت قد تأثرت نوعاً ما فى العصر البطلمى والروماني، إلا أنه بعد الفتح الإسلامى على يد عمرو بن العاص سنة 641 م، ازدهرت العلوم والثقافة الإسلامية، وتحولت مصر إلى منارة للعلوم العربية والإسلامية، وراج بها سوق الأدب والشعر وكافة العلوم الأخرى، وشهدت نهضة شاملة فى مجالات العمران والفنون الإسلامية وإن كانت قد تأثرت قى ظل الحكم العثمانى، وعندما تولى محمد على حكم مصر كان حريصاً على إحداث نهضة علمية، فأنشأ العديد من المدارس العليا مثل مدرسة الألسن والطب والهندسة وأرسل البعثات إلى الخارج، وتشكلت فى مصر طبقة مثقفة تضم طلبة من خريجى هذه المدارس وممن ابْتُعث إلى الخارج، إلى جانب علماء الأزهر الشريف الذين حافظوا على العلوم الإسلامية واللغة العربية، ومن الثابت أن هذه الطبقة تميزت بالرقى والسمو والرفعة فى سلوكها، فمن خلالها تشكل وجدان الأمة التى باتت مفعمةً بالحياة وكان لتنوع الثقافات أبلغ الأثر فى ازدهار الحياة الثقافية؛ فانتشرت «الصالونات» الثقافية وتنوعت الفنون خاصة الفن المسرحى و«السينمائي» و«الأوبرالي»؛ فلقد كانت مصر من أولى الدول التى أنتجت «الأفلام السينمائية» و«أفلام» الرسوم المتحركة، وفى ظل هذه الحياة النابضة بالإبداع والتى باتت الطبقة المثقفة فيها قاطرة الأمة ومحل تقديرها، انبرت نخبة من قادة العمل الوطنى ورواد حركة التنوير والفكر لتحقيق حلم طالما داعب خيال أبناء هذا الوطن، وهو إنشاء جامعة تنهض بالبلاد فى شتى مناحى الحياة، وتكون منارةً للفكر وأساساً للنهضة العلمية وجسراً يصل البلاد بمنابع العلم الحديث، وبوتقةً تعد فيها الكوادر اللازمة فى كل التخصصات لمشاركة العالم فى تقدمه العلمي؛ فكانت فكرة إنشاء جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول) التى عندما تعثرت خطوات بنائها وكادت أن تتوقف بسبب ما واجهتها من صعوبات مالية حالت بينها وبين اكتمال الحلم؛ فحينئذ هبت الأميرة فاطمة بنت الخديو إسماعيل المعروفة باهتمامها بالعلم والثقافة وتكفلت بمعظم تكاليف بناء الجامعة من مالها الخاص، وقامت بإهداء بعض مجوهراتها وحُلِيها إلى إدارة الجامعة لبيعها مساهمةً منها فى تحقيق حُلم الأمة، وظل تقدير العامة للمثقفين كبيراً وبلغت ذروته فى النصف الأول من القرن العشرين واستمر فى ستينيات القرن الماضي، ولكن بداية من هزيمة سنة 1967م بدأ المؤشر الثقافى فى الهبوط متأثراً بتداعيات كثيرة أهمها صدمة الوجدان المصرى بالهزيمة ورفضها، ولكن سرعان ما ضمدت الأمة جراحها واستردت عافيتها بنصر أكتوبر، لكنها ما كادت تسترد أنفاسها حتى أُجْتِيحت بطوفان الانفتاح - الذى كان له ما يبرره - والذى أثر على ما تبقى من رفعة ومقام المثقفين، فمع الانفتاح بدت ظاهرة التضخم والهجرة إلى الخارج، وانفتح الشعب على نمطٍ استهلاكى لم يألفه توارى معه عمق الفكر والإبداع وانتشرت مفاهيم عصر السرعة والوجبات السريعة وتعبئة «الأفلام السينمائية»، وكان لانتقال الثروات إلى طبقة جديدة من المستفيدين فى المجتمع - من التضخم والهجرة - أثر كبير لتراجع مكانة المثقفي، وظلت هذه الفترة ممتدة طويلاً ترافقها جهود مضنية من الدولة للحفاظ على الطبقة المثقفة؛ بعد أن تبدلت بها الأحوال . والحقيقة - والتى لا جدال فيها - أن آثار الانفتاح بعد هذه السنوات الطويلة ما زالت قائمةً، لذا فإن ما نحتاجه هو المزيد من الجهود لتعزيز مكانة المبدعين والمثقفين، وتهيئة المناخ المناسب لها - على نحو يليق بموقعهم الحقيقى - فى صدارة الأمة، وتقديم الدعم لهم على النحو الذى سار عليه المؤتمر الوطنى الدورى الرابع للشباب الذى انعقد بالإسكندرية تحت رعاية السيد رئيس الجمهورية، والذى عكس اهتمام الدولة بالثقافة، إذ كان ضمن توصياته إعداد تخطيط متكامل لإنشاء كيان ثقافى شامل بالعاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة، فضلاً عن إعداد وتخطيط كيانات ثقافية ومعرفية مصغرة مماثلة؛ فى المدن الجديدة الجارى إنشاؤها فى محافظات الصعيد، فالعلم والثقافة هما السبيل الوحيد للحاق بمصاف الدول المتقدمة.