الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الحب.. جدل الغناء والسرد

الحب.. جدل الغناء والسرد






«إلى ثومة طبعا»، هكذا يهدى الروائى صبحى شحاتة روايته (الحب)، والصادرة فى القاهرة عن دار (بدائل) للنشر، فيبدو الإهداء حاملا نفَسا شعبيا، وروحا تلاطف العالم وتعابثه، موظفا الاسم الشعبى الدارج للسيدة أم كلثوم، التى يؤكد إهداءه إليها بالمفردة الدالة (طبعا)، وعبر تصدير يمتح من نموذج شعرى سامق وجمالى للشاعر المصرى جمال القصاص،  تتوالى بعده مقاطع الرواية، التى تستلهم روح الغناء المترعة بالعشق والمحبة، بادئا من أم كلثوم ومخاطبا الوجدان الجمعي، ومداعبا إياه، ولاعبا بالأساس فى تلك المسافة الحرة بين العاطفة والخيال، عبر تفكيك النصوص الغنائية لأم كلثوم، وشادية، وفيروز، وعبدالحليم، وغيرهم.
وتعمل النصوص الغنائية هنا والمضفرة فى متن السرد الروائى بوصفها نصوصا موزاية، وممثلة لما يعرف بالنص المصاحب، حيث يبنى عليها الكاتب مقاطعه السردية تارة، ويتمم رؤيته السردية من خلالها تارة ثانية، وصولا إلى حيز التأمل والتفكيك للمستقر والسائد والمألوف من الأفكار، فالآخرون – مثلا- ليسوا شرطا أن يكونوا هم الجحيم دائما، كما يرى سارتر، فمعرفة الآخر تصير حتمية لمعرفة الذات بنفسها، وهذا التوق للآخر إنما يمثل توقا للذات فى جوهره، ومحاولة لاستكشاف العالم المخبوء تحت قشرة الواقع الصلدة، والواقع فى رواية «الحب» لا يمكن التعامل معه بوصفه بنية جامدة، كما لا يمكن تأويله تأويلا نهائيا جاهزا، حيث تحلق الكتابة بعيدا، فتعانق الخيال وتستحضره، والحب هنا ليس محض تيمة، ولا بنية مهيمنة على النص فحسب، إنه طريقة لاستكشاف العالم، للإثبات والمحو، البناء والهدم، فى نص المراوحات المستمرة بين الحضور والغياب، حيث يجعل الكاتب من بطله المركزى مرويا عنه ومرويا له فى آن، متوجها بالخطاب السردى إليه، وقد أحبته الفتاة «دنيا»، ولا يخفى ما فى الاسم من رمزيات متعددة. يأتى النص فى إطار لعبة، ويوظف آلية المراوغة التى تحركه على مستويى المتن والتشكيل الجمالي، فالمتن السردى يبدأ من لعبة تتصل بالبطل المركزى فى الرواية والمروى عنه داخلها، وأعنى ذلك المثقف المعدم ، الذى يصطحبه رجل ثرى إلى أحد «المولات»، تتعارف الشخصيات هنا بسرعة مذهلة، والفراغات متروكة للقارئ الذى زخمته الحياة بتفاصيلها اليومية، وحينما يخضع المثقف وصاحبه الثرى للتجربة، لا يمنحك النص نفسه دفعة واحدة، ففى البداية  يتوهم المتلقى أن فتاة المول العاملة فى أحد المحال التجارية داخله، تعتقد فى أن المثقف المعدم هو المتبوع الثري، وأن الرجل «المحفظة» - كما يسميه النص- المتسلح بالثروة والنفوذ هو التابع!، ثم تتكشف الحقيقة للمتلقى وللمروى عنه المركزى نفسه (بطل الرواية/ المثقف العدمى الفقير) بأن الفتاة تعرفه جيدا وأن ثمة ذكريات لا تمحى بينهما، وتبدو مناطق التآلف بين المثقف وفتاته، والأحلام المتصاعدة داخل كل منهما مسكونة بالسخرية. وتعد السخرية فى رواية «الحب» ملمحا مركزيا من ملامحها، منتجة للمعنى داخل النص عبر قراءة اللاوعى الجمعى لبشر أنهكتهم  القسوة والوحشة والبؤس العام؛ ولذا فإن السخرية هنا ليست موقفا احتجاجيا من العالم فحسب، ولكنها رؤية كاشفة للاوعى الجمعى أيضا، عبر قراءة حركة الشخوص وتفاعلاتهم اليومية.
يوظف الكاتب تقنية البرولوج المسرحية، فى تقديم شخوصه داخل الرواية، حيث ثمة استهلال يسبق الكورس الذى يظهر وكأنه بمثابة التقديمة الدرامية للشخوص، مثلما نرى مع شخصية الأم التى تسبقها الأغنية الشهيرة (ست الحبايب) للفنانة شادية، فى استدعاء جديد للحالة الغنائية.
إن الغناء يكتب تاريخ علاقاتنا المكتملة والمبتورة، المشوهة والناقصة، ومن ثم يصبح استدعاء النص الغنائى هنا بما له من إحالات فى الوجدان العام، استدعاء لحالة إنسانية رهيفة تتسق وتيمة النص المركزية (الحب) الذى يقف بوصفه سلطة تجابه سلطة المال والنفوذ، وتتجادل معهما، رفضا وخضوعا، ابتعادا وقربا، فى نص يعتمد فى بنيته على التدفق السردي، والتداعى الحر، وكسر الإيقاعات اللغوية الثابتة، ومحاولة خلق إيقاع جديد ابن العامية المصرية، وإن أعاق طغيان الإيقاع العامى تنامى السرد أحيانا مثلما نرى فى (ص194).
يحضر الحب فى الرواية عبر مستويات متعددة، فلا يبدو كتلة واحدة، وإنما يتجلى فى الرغبة فى الوصال، أو مغادرة حياة الوحشة، أو الرغبة فى الممارسة الحسية، أو الاستمتاع بونس الآخر، و فى كل يظل الحب هنا وسيلة وغاية، سبيلا وهدفا، مركزا للحكى وجوهرا له فى آن.
يصل التجريب مدى أبعد، حيث لا يكتفى الروائى بأسلوب الوحدات السردية المتناغمة والمتنافرة فى آن، التى تحتمل الشيء وما وراءه، فيضع مثلا قصة قصيرة داخل روايته، مانحا إياها هذا العنوان (قصة قصيرة: البديل الرمزى)، تشير إلى أطوار التحول للمرأة بعد الزواج، والعلاقة السيكوفسيولوجية التى تجتاحها وتجتاح العلاقة بأكملها بينها وبين الرجل، مشيرا إلى ما يسمى بجماليات التشوه.
تحضر الثقافة الشعبية فى الرواية عبر تفكيك الوعى الشعبى للشخوص من جهة، واستحضار الأغانى الريفية بلكنتها المحببة من جهة ثانية (أيوه يا واد يا ولعة/ خدها ونزل الترعة)، والباعثة على المحبة، والسخرية، والتأمل.
تنفتح الرواية على نهايات عديدة، حيث الأبله وأسئلته التى لا تنتهى، وبما يحيلك إلى أبله ديستويفسكى، فلا تعرف بالضبط هل هو أبله أم لا؟، فضلا عن احتواء النهاية على مشهد فنتازى يعتمد على توظيف الدوال الرامزة (طائرة المحفظة/ الحشود)، حيث يواجه المجموع الرجل الثرى الذى يعلن عبر الميكروفون من طائرته المحلقة فوق الحشود بأنه وحده من يمتلك النهاية، بينما يرد المجموع بأغنية فايزة أحمد الشهيرة ( ابعد يا شيطان.. ابعد يا شيطان)، لكن لا شيء محسوم هنا فى رواية السؤال والتصور النسبى عن العالم.