الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«شىء من هذا الغبار».. أسئلة الشعر والانحياز للتجريب

«شىء من هذا الغبار».. أسئلة الشعر والانحياز للتجريب

ثمة لحظات زمينة فارقة ينتخبها الشاعر عاطف عبدالعزيز فى ديوانه الجديد (شىء من هذا الغبار)، والصادر عن (منشورات المتوسط/ إيطاليا)، لحظات مفصلية فى مرآة الذات الشاعرة، ومن ثم فجُلها يأتى على المستوى الذاتي/ الخاص، وقليلها على المستوى الموضوعي/ العام، يكثفها جماليا، فيتجادل السردى مع الشعرى فى بنية متجانسة تمتد قصائدها العشرين مثل جدارية عن روح مثقوبة تعاين الغبار وتسائله ليس من منظور أيديولوجي، ولكن من منظور إنسانى تمثل فيه الذات الشاعرة دور عين الكاميرا التى تلتقط لنا كل عابر ومهمل. فترصد العالم من زوايا التحنان والنسيان، القسوة والقبح، المحبة والشجن. فتصير «سأم القاهرة» ، التى يحيلك عنوانها إلى قصيدة بودلير الشهيرة سأم باريس، والتى يختتم بها الشاعر عاطف عبدالعزيز ديوانه، مسكونة بخصوصية المكان، والبشر، وروائح الذكرى، والغبار وقنينة العطر المنسية التى اعتلاها غبار خفيف مثل الذى اعتلى كل شيء، غبار فى البدء وفى الختام، غبار هنا وهناك، وتتشكل قصيدة سأم القاهرة من تسعة نصوص تمثل متتالية شعرية تقوم بينها وحدات عضوية مترابطة ومتجادلة فى آن. ومركز الحكى الشعرى فى النص ذات مهشمة فى مرآة التشظي، ترى العالم وتعابثه بعينين مفتوحتين على جحيم أرضى مغلف برغبة عارمة فى البوح والإفلات من أسر المواضعات الجامدة، والتصورات القامعة لرغبة الإنسان الفرد فى أن يكون ما يريده، حيث ثمة حال من الإخفاق تحاصر الذات الشاعرة ومحيطها منذ المستهل وحتى المختتم، ومنذ الأرملة الجميلة بركبتيها البيضاوين الناعمتين فى المقطع الأول وحتى قنينة العطر فى المقطع التاسع، تلك التى يعلوها الغبار لزوجة صارت مثل سيلفيا بلاث الشاعرة التى ماتت منتحرة وزوجة الشاعر تيد هيوز.  روح تعاين فى النص الأخير «سأم القاهرة «، الذى يعقب القصائد العشرين، أمكنة وتحولات ليس من منظور أيديولوجي؛ ولذا فالتماسات بين نصوص الديوان حاضرة وبقوة فى ديوان يعرف الشاعر من أين يبدؤه، وكيف يبقيه مفتوحا على عنوانه وجوهره حين ينهيه قائلا ( أخبرتنى زوجتى وهى تفتش عن خفيها، بأن الجارة اتصلت، بعد ذلك/ أضافت ما لم أسمعه/ كنت مأخوذا وقتها بشكل العطور المرصوصة أمام المرآة، إذ بدت قنينة العطر الذى أحبه تقف هناك شاردة وملأى.. وبان عليها شيء من غبار خفيف».  تؤنسن القصائد كل شيء، وتراه من منظور إنساني، مثلما نرى فى قصيدة (كافورة على الطريق) لكن الولع بشجرة الكافور لم يلبث أن ينتهي، حين جزت رأسها ماكينة رصف الطريق! فالمآلات مأساوية هنا أو شجنية، فى استدعاء مفعم بالأسى والبكارة لإرث الرومانتيكية فى ظلال جديدة نافذه صوب الروح لأنها ابتعدت عن النهنهات العاطفية واتجهت صوب التأمل، ومحاولة تفكيك العالم. يبدو النزوع الإنسانى والخصوصية الجمالية والبصمة الأسلوبية للشاعر حائلة بينه وبين اجترار المطروق من قصيدة النثر، ومن ثم يبدو الاحتفاء بالهامش والعابر والمجانى هنا احتفاء مغايرا لأنه ابن روح شعرية لا تفتعل شيئا، وحين تصنع هوامش وإشارات داخل الديوان لا تصنع ذلك من قبيل التعاظل المعرفي، خاصة وأن الشاعر مفتون بما ْأسميته من قبل بشعرية الإحالة، حيث التماسات مع جوانب من الفن والشعر والتاريخ الإنساني( تيد هيوز / سيلفيا بلاث/ لوحة المستحمات لبول سيزان/.. ). فى قصيدة «المستحمات» ثمة غبار يعلو الجسد ويتسرب صوب الروح. وتبدو المعارضة للوحة بول سيزان والتماس معها أيضا نصا موازيا للوحة الشهيرة والخلابة . يبدو المنظور مركبا فى «حبيبة أبي»، التى احتفظت بخصرها الضامر، ثم اتسع المعنى وكان لا بد أن يتسع، فالحاجز النفسى الذى صار بين الذات الشاعرة والمرأة المحكى عنها يبدو جامدا، خاصة فكرة كونها ظلا لأمه. حتى تأتى الإشارة الأخيرة إلى الأب المنهك الذى ارتعش جسده وهو يسمع صوتها قادما من المذياع . وتبدو العلاقات البينية الشائكة القائمة على الامتداد الزمانى والجمع بين زمانين متجادلين عبر لحظة إنسانية موغلة فى ذاتيتها مثل أن تجمع الذات الشاعرة بين المرأة وجدتها فى «محنة النور»، من التيمات اللافتة فى الديوان . يبدو الحس الايروتيكى حاضرا وبقوة فى معظم قصائد الديوان، فنراه فى «الطريق إلى المسرة»، و«أناهيد»، وغيرهما، مثلما يبدو التشظى والهويات المتعددة حاضرين فى «تلك الأصوات» و«طرف ثالث».  ثمة تمجيد للضعف واحتفاء به فى « ابن الجيران» الذى غاب يوما عن شرفته ولم يعد ( طفل التوحد الجميل الراحل مبكرا)، وينوع الشاعر فى استخدامات الضمائر وتوظيفها فى قصيدته «لم يتشاجر يوما فى حانة» بدءا من العنوان الذى يحيل على الغائب، ثم يتوجه الخطاب الشعرى بعدها إلى مروى له محدد ضمنيًا.  يعتمد الشاعر آلية البناء على الجملة أحيانا ليشكل قصيدته مثلما نرى فى تواتر جملة( فاتنى الرثاء) فى قصيدة «فى مديح الغفلة». وبعد.. قصيدة عاطف عبدالعزيز قصيدة تؤرقها الأسئلة أكثر من أى شيء آخر، حيث يتوجه الشاعر دوما – بحسب ماكليش -: «نحو أشياء العالم، لا لكى يُكوّن أفكارا عنها بل ليكشفها، وبذا يكتشف نفسه». وقد راكم عاطف عبدالعزيز مشروعا شعريا يخصه وحده،، يمتد لأحد عشر ديوانًا، بدءا من «ذاكرة الظل» و»حيطان بيضاء»، ومرورا بالفجوة فى شكلها الأخير، و»سياسة النسيان»، و»سيرة الحب»، و»ترجمان الروائح»، و»برهان على لا شيء»، وغيرها، ووصولًا إلى ديوانه الثرى المفعم بالمحبة والرغبة والأسى والإخفاق والمواعدة ( شيء من هذا االغبار).