السبت 29 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
جمال حسان ونساء الهلباوى

جمال حسان ونساء الهلباوى

يبدو التاريخ إهابا متسعا لعشرات الحكايات والحوادث، فضاء للنص والتأويل. وتتخذ العلاقة بين الرواية والتاريخ طابعًا جدليًا بامتياز، فخطاب التاريخ تسجيلي، والخطاب الروائى تخييلي. وفى روايتها « نساء الهلباوي»، والصادرة فى القاهرة عن دار النسيم، تفكك الكاتبة الروائية جمال حسان سيرة المحامى الشهير إبراهيم الهلباوى المعروف بجلاد دنشواي، والذى ارتضى لنفسه أن يكون محاميًا للشيطان بالمعنى المجازي، إذن نحن أمام نص إشكالى بامتياز يقرر منذ البداية أن ينفذ صوب منطقة تاريخية استقر الوجدان الجمعى على إصدار الحكم فيها، وأصبح من الثابت والمتواتر أن نصف الهلباوى بأنه قد خان ناسه وأمته المصرية فى حادثة دنشواى المؤلمة التى تحيلك على سجل الاستعمار لبلدان العالم الثالث، ويمكن هنا قراءة خطابات اللورد كرومر التى فككها فيما بعد المفكر الراحل إدوارد سعيد فى كتابه المهم (الاستشراق.. المعرفة والسلطة والإنشاء). تحيل جمال حسان على التاريخى لتجعله فى متن الجمالي، وتتخذ منه تكئة لتناول آخر لشخصية الهلباوى بطل الرواية الإشكالى الذى لا يبدو فى النص سلبيا ولا إيجابيا، بل يبدو متعدد الوجوه، فهو طامح ومتسلق، مقدام وانتهازي، ويقدم ذلك عبر المواقف السردية المعروضة وليس الجمل الحوارية المباشرة فى وعى فنى من الكاتبة بما تفعل، حيث يبر أهله ويرفض فى الآن نفسه الدفاع عن أخيه فى جناية ارتكبها من أجل الدفاع عن أرضه، ويهادن الإنجليز دائمًا، ويعادى حكومة الملك أحيانًا. لتبدو الشخصية الروائية هنا موزعة بين طموحها الفردى ومحيطها الاجتماعي، بين النشأة والتكوين حيث الالتحاق بدروس جمال الدين الأفغانى والحركة داخل الحياة من أجل التحقق الفردى المستمر مع شخص لا يرضى بأنصاف المواقع؛ ومن ثم يسعى لإنشاء نقابة المحامين ويصبح أول نقيب لها، بل ويتبرع لها بأربعين فدانًا!.  تقدم الرواية بطلها المركزى عبر تقنية عين الكاميرا التى تتوزع على مستويات متعددة للسرد، تلعب فيها لعبة الرواة المتعددين دورًا بارزًا فى تقديم منظورات متعددة للحكي، فحسيبة تغاير فى حكيها وجهة النظر التى تبنتها أزاد، فبينما تراه الأولى مخادعًا خبيث النفس، تراه الثانية عطوفًا محبًا للآخرين، ويطرح ذلك كله عبر المواقف السردية. تُحكى الرواية عبر عيون نساء الهلباوي، وإبراهيم الهلباوى نفسه، ويتحرك السرد بين هذه الشخوص التى تمثل حلقات السرد الموزعة كميا على نحو غير متساو، وبما يمكننا من قراءة وجهة النظر الكامنة خلف الكتابة، أو رؤية العالم الحاضرة فى النص. فالزوجة التركية أينوربان تحتل المرتبة الأولى بين نساء السرد فى الحكى مثلما تحتل المكانة الأثيرة داخل  سيكولوجية البطل المركزى فى الرواية، وتراه بعيون محبة وناصعة، وعبر هذا الفهم ستبدو مشكلة الرواية الرئيسية والمتصلة بغياب المنظورات الأخرى فيما يتصل بالحادثة المركزية فى حياة الهلباوى والتى لولاها لبقى رجلًا نابهًا فى سياق نوعى يعرفه المحامون ورجال العدالة وأعنى حادثة دنشواي. ولذا ربما كانت الرواية بحاجة حقيقية إلى فصل يرويه فلاحو دنشواى أنفسهم أو حتى واحدة من نساء دنشواى المكلومات سيرا على منطق الرواية؛ لأن هؤلاء النساء هن ضحايا الهلباوى الحقيقيات، من قبيل ابنة أم صابر مثلا التى قتلت غدرا، أو زوجة شيخ الخفر أو زوجة أو أم الشاب الذى مات وهو يتجرع الماء قبل الموت الذى تجرعه بالرصاص، وبما يصنع أفقا للسرد الموضوعى داخل الرواية.  توظف الروائية جمال حسان تقنية الشخصيات الحافزة أو المحركة للسرد توظيفا دالا، ويتجلى هذا التكنيك عبر أكثر من شخصية تحضر فى النص فتدفع بالموقف الدرامى الراكد إلى الأمام، وتتجادل فصول السرد مع شخصيات الرواية، فكل فصل هو شخصية وكل شخصية هى فصل سردى قائم ومستقل بذاته من جهة ومتصل بالفصول/ الحلقات السردية الأخرى من جهة ثانية، موظفة جدل الاتصال والانفصال داخل روايتها.  تتنوع الأداءات اللغوية فى الرواية ما بين الفصحى الكلاسيكية فى فصول يرويها الهلباوى المحامى المفوه والخطيب الجهير، وتبتعد فيها الكاتبة عن الإنشاء وتقدم ما يفيد السرد دائما، إلا حين تتجادل مع خطابه على مستوى التوثيق لكلامه أو التسجيل. كما تبدو خطابات الأم ريفية الطابع بلغتها العامية وموروثها الوفى للمكان، وتبدو لغة حسيبة حانقة ومعبأة بالجو النفسى المشحون بالأسى والغضب اللانهائي.  تتعمق مساحات التأمل النفسى فى الشخصية المركبة التى يمثلها إبراهيم الهلباوى حيث نجد أنفسنا بإزاء شخصية مركبة أودت بنفسها لما استحقته من نبذ وإقصاء اجتماعى ربما لعب الوجدان الجمعى للأمة المصرية الدور الحاسم فيه، وتتبخر كل محاولاته فيما بعد للتنصل من الخزى الذى ظل يلاحقه، فيدافع فيما بعد عن قاتل بطرس غالى وزير الحقانية فى عهد حادثة دنشواي، ويقف إلى جوار الصحافى المعارض أحمد حلمي.  وفى كل يبدو الهلباوى قتيلًا للطموح، قتله طموحه وافتتانه المستلب بالنموذج الإنجليزي، وعدم امتلاك العقل النقدى تجاهه، فى نص إشكالى منفتح على جدل التوثيق والتخييل فى بنية سردية متماسكة ومتجانسة فى آن واحد.