الخميس 11 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مرافئ الروح.. جدل الصخب والسكون

مرافئ الروح.. جدل الصخب والسكون

يوغل الكاتب الروائى يحيى مختار فى تاريخ النوبة فى روايته «مرافئ الروح»، والصادرة فى طبعتها الثانية حديثا عن سلسلة (كتاب اليوم) الثقافي، فيعيد الاعتبار لوقائع منسية، تقرب المكان الروائى لمتلقيه، وتحضر النوبة بوصفها فضاء تاريخيا ممتدا، ومن ثم تتناثر الإشارات فى الرواية إلى التاريخ الغابر للنوبة المصرية، والتى تعد ابنة للتراكم الحضارى المصرى ذاته، هذا التراكم المتكيء على جذور متعددة، ومن ثم نرى حضورا فى «مرافئ الروح» للمعابد الفرعونية القديمة، وللكاتدرائية العتيقة، ولعوالم الدراويش، وتهيمن صيغة التجاور بين الصيغ المختلفة على المكان، ومن ثم يبدو الفضاء الروائى هنا سمحا، لديه قدرة كبيرة على التعايش، وإن ظل المكان محملا بنفس أسطورى لا تخطئه عين، تواترت الإشارات إليه فى الرواية، حتى أصبحت الأسطورة ملمحا أساسيا من ملامح تقديم المكان فى «مرافئ الروح». يستهل الكاتب روايته بمقطع سردى دال، يحوى إشارة زمانية، تاريخية، ينطلق منها خط القص الرئيسي: «الأحداث فى الجنوب كانت تتجه سريعا نحو حسم المعارك ضد جيوش الدروايش، التى انكسرت شوكتها فى معركة أم درمان فتم القضاء على سلطة الخليفة «عبدالله التعايشى». ومن أصداء هذا الخبر الذى سرعان ما يطير إلى «الجنينة والشباك» المكان المركزى فى الرواية، حيث يتعاطى  الكاتب يحيى مختار مع قرية «الجنينة والشباك» دوما بوصفها تلخيصا بليغا للنوبة ولناسها فى آن، وينتقل الراوى إلى رصد تأثير هذه الواقعة تاريخيا فى نفوس النوبيين، والخيال الشعبى الذى لعب دورا كبيرا فى منح الحكاية أبعادا جديدة، وخاصة فى تأهب «عبدالله التعايشي» لفكرة الموت وتلقيه لها. ومن الانطلاق من وقائع تاريخية يصوغها الخيال الشعبى على نحو جديد، يربط الكاتب مكانه المركزي »لجنينة والشباك» بهذا العالم المسكون بالحكايات، والأساطير. وإذا كانت البداية تحوى إشارة تاريخية، تنبيء عن زمانية السرد وبداياته هنا «سقوط عبدالله التعايشى 1899م»، فإن مسارات السرد جميعها تحمل وعيا بالامتداد التاريخى للمكان الروائي»النوبة»، من جهة، واستكمالًا لحكايات أهالى الجنينة والشباك عن وليهم الصالح «الشيخ حسن أبوجلابية» من جهة ثانية. وتبرز حكاية الشيخ حسن أبوجلابية الذى راحت عينه اليسرى فى واقعة تتصل بما يسمى بـ«كرامات الأولياء فى الوجدان الشعبي»، حيث يسير القطب الصوفى على الماء، متجها للغرب، وحين يتوهم فى البداية أن ثمة قاربا يحمله، لا يرى شيئا!، وحين يطلع على السر حفيده «سلامة عبدالسيد» – ولد ابنته- ويرى المعجزة، يذهب بصره تماما، وحين يقص على جدته (سكينة بسطان) – زوجة الشيخ حسن أبو جلابية- إذا هى تصيح به، طالبة منه السكوت، مذكرة إياه بأنهم لا يجب أن يحكوا أبدا عن أحوال الشيخ، الذى كثيرا ما حذرهم من ذلك. وتمثل هذه الواقعة الحدث المركزى فى الرواية، هذا الحدث الذى تتفرع منه أحداث أخرى، بما يعنى أنه يظل شاغلا لناس «الجنينة والشباك» جميعهم، ومفجرا لجملة من الأسئلة المتعلقة بالمكان، وعلاقته بالأسطورة، ومدى حضور المعتقد الشعبى للبشر داخله، ومن ثم تتواتر الحكايات عن كرامات لأولياء آخرين، وبما يعزز من سلطة الموروث الدينى داخل المكان الروائي»النوبة»، فضلا عن الإضافات التى تخضع لها الحكايات نفسها، وبما يجعلها غارقة فى المبالغة، والخيال. وقد حمل «العم إيليش» على عاتقه هذه المهمة فى السرد، حيث منح الحكايات عن الشيخ «حسن أبوجلابية» أبعادا أسطورية جديدة، تتصل بالتنبؤ بالقادم والتعاطى مع كائنات غير مرئية!. فى «مرافيء الروح» نرى جدلا خلاقا بين الشخصية الروائية والمكان، هذا الجدل الذى يمكن تلمسه عبر شخصية «حسن بورس»، الذى نتعرف من خلاله عن تراث المكان النوبي، وامتداداته التاريخية، فحسن بورس كان مصاحبا لكل رحلات المستكشفين والمغامرين الذين وفدوا على الجنينة والشباك، وكل القرى النوبية. ثمة رؤيتان مختلفتان للعالم، تتعامل كل منهما مع المكان على نحو مختلف، فتصبح النوبة موطنا للأساطير والخرافات لدى العم إيليش، بينما تمثل مهادا للعلم والفن والمعرفة لدى حسن بورس، وكلتا الرؤيتين تحضران فى الرواية، وتمثلان جانبا محوريا من نسيجها العام. وبعد أن يوصى الجد الشيخ  حسن أبوجلابية زوجته «سكينة بسطان» بأن يأخذ حفيده «سلامة عبدالسيد» ركوته ونايه، يصير سلامة بالفعل أعذب صوتا فى الإنشاد، ويصبح نايه أكثر تأثيرًا، وكأن سر الشيخ قد أودع فيه كما اعتقد الصديقان «عبدالله سراج» و »حسن بورس»، غير أنه مثلما اختفى الشيخ «حسن أبوجلابية» فى بداية الرواية، فإن حفيده «سلامة عبدالسيد» يختفى فى نهايتها ولا يعثر له على أثر. وبعد. تبدو قرية «الجنينة والشباك» فضاء أثيرا تتحرك فيه شخوص الرواية، وهى تغالب مخاوفها وهواجسها، ساعية لمقاومة المحو والاندثار، ويوظف الكاتب موروث المكان وثقافته الشعبية من أساطير وخرافات ويضفرها فى متن نصه، ويرصد أثرها فى سيكولوجية شخوصه، كما نرى وعيا بالملمح الصوفى الذى يسكن النوبة ويشكل جزءًا أصيلًا من تراث المكان، وتظل لغة يحيى مختار آسرة، بها نزوع شعرى أحيانًا، مسكونة بمعانى الفقد والضياع، والحنين لمراتع الصبا الأولى.