الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«أحلم وأنا بجوارك».. عالم على شفا الفقد والشجن

«أحلم وأنا بجوارك».. عالم على شفا الفقد والشجن

ثلاث حركات موسيقية تهيمن على رواية «أحلم وأنا بجوارك» للكاتبة الروائية زينب عفيفى، والصادرة فى القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية، تتجلى فى العنوان منها حركتان يحددهما ضمير المتكلم (أحلم وأنا)، وكاف الخطاب التى تتوجه بالخطاب السردى إلى آخر(بجوارك)، وبين الحركتين ثمة حركة  ثالثة تنهض بها الأم «راجية منصور» التى تحتل موقعا متقدما فى السرد بوصفها أحد طرفى الوضع السردى باستمرار «الراوى والمروى له»، سواء عبر حكاياتها القائمة على التذكر من جهة، أو حكايات ابنتها «مى عبدالحميد» لها عن الحبيب المشترك «سليم علوان» من جهة ثانية. وإذا كانت الحركة فى الموسيقى هى جزء متكامل فى التأليف الموسيقى أو ضمن الصيغة الموسيقية، ويمكن أن تؤدى بمفردها، فإن الحركات الثلاث ( مي/ راجية/ سليم) التى تشكل جوهر النص الروائى ( أحلم وأنا بجوارك) تعد متداخلة ومتقاطعة فى آن.



ويحضر سليم علوان فى الرواية عبر تصورين متجادلين، فهو الحبيب الواقعى الغادر بالنسبة لراجية (الأم)، والحلم المسموم القابل للتحقق بالنسبة لابنتها (مى). وتتشكل الحكايات من زخم العلاقات الشائكة بين الأم وابنتها. وربما يصبح انتصار الكاتبة لتلك العلاقة انتصارا للمعنى ذاته بدرجة ما، ولو أن الاختيار بين الواجب والعاطفة الذى صاحب «مي» فى علاقتها بالشخصيتين المركزيتين معها فى النص «راجية» و»سليم»، أو بين الأم والحبيب المتسرب مثل حلم يقظة إليها فى خدرها، بدا تعبيرا عن رؤية رومانتيكية للعالم تتجلى فى أكثر من صيغة داخل الرواية بدءا من الاستهلال السردى لها، حيث يبدو العالم كيانا قائما على الثنائيات المتعارضة باستمرار، حيث ثمة واقع خارجى صاخب يسكنه الزحام والفوضى، فى مقابل عالم داخلى عماده البيت الهاديء، والأم التى راح بصرها، وتعزف الموسيقى بشجن وحنان كبيرين، والابنة الغارقة فى قراءة الروايات والعيش مع أبطالها. ويمثل البيت الهادئ مركزا للسرد وفضاء نفسيا وماديا للحكاية فى الآن نفسه. 

توظف الكاتبة الحكى بصيغة المتكلم لتبوح بطلتها المركزية ( مى عبدالحميد) أكثر، تلك التى تتزيا بثياب رومانتيكية دوما، والتى تصبح الروايات بالنسبة لها بديلا حالما للعيش داخلها، فلا تكتفى بالتوحد مع الشخوص وفقا للمنطق الأرسطى القديم، ليحدث التطهير عبر إثارة عاطفتى الخوف والشفقة، وإنما تصير «مي» هنا بطلة من أبطال الروايات نفسها: «وحينما كبرت صارت الروايات حياة موازية لحياتي.. لم أغفل قصص «روميو وجولييت»، و«قيس وليلى»، و«كليوباترا وأنطونيو»، روايات عشت فيها حالات الحب وعذاباته، الحب الذى يأتى إليك ولا تسعى إليه، الحب الذى يدخلنا فى عداد الأحياء، ضاربة بنصيحة أمى «عرض الحائط»: بأن قصة حب واحدة فى الحقيقة خير من عشر فى رواية، لم أستطع أن أقول لها إن الروايات بإمكانها أن تشفينا من أوجاعنا، وتساعدنا على فهم حياتنا، وبعضها قادر على تنويرنا ومنحنا حياة أرحب من واقع يضيق بأحلامنا، ويحرمنا من أبسط حقوقنا فى حياة هادئة عن عيون الفضوليين». 

ولذا تصبح الحياة خارج الروايات صقيعا لا يحتمل بالنسبة للبطلة (مي)، كما ينبئنا الفصل السردى الخامس عشر والأخير من الرواية، ولذا أيضا يصبح استدعاؤها لسليم علوان استدعاء لفكرة الكاتب الذى أرادته، وللتصور المثالى عن فكرة الكاتب والكتابة ذاتها. وعندما يتبين لها غدره السابق بأمها (راجية) يخفت ولعها، واستدعاؤها العاطفى والروحى له.

توظف الكاتبة تقنية الرسائل فى روايتها، وتستثمر فضاء الصفحة الورقية فى الإبانة عن ذلك، كما تلجأ فى مقاطع عديدة من السرد إلى استخدام التوصيفات النفسية للشخوص على نحو يبرز جزءا من أزمتها الداخلية، ويكشف عن جانب من جوهرها الإنسانى المركب، من قبيل المونولوج الداخلى الذى تبين فيه «مي» عن نفسها أكثر: «أنا لست ملاكا ولا شيطانا، أنا فتاة عذراء لم يمسسها رجل من قبل، تريد أن تعيش وتمارس الحب. تتذوق طعمه، أمى أحبت «سليم علوان»، ومارست الجنس بجسدها مع أبى، يعنى ذاقت الحالتين، أما أنا محرومة من الخيال والواقع. جسدى المحروم وروحى الهائمة تطوف حول أبطال الروايات الوهميين كل ليلة، ثم تعود إلى الفراش مهزومة. وحينما تجسد لى رجل الأحلام فى صورة الحبيب المنتظر، جاء فى صورة أفظع من خيال الروايات، روحى وجسدى يحتاجان إليه، وعقلى يقف لهما حائلا بالمرصاد».

تلعب الشخصيات الهامشية دورا محوريا فى السرد، وتمثل شخصية «محمد متولي» أمين المكتبة ما يسمى بالشخصية الحافزة والمحركة للسرد والتى تدفع بالموقف الدرامى الراكد إلى الأمام. ولا يوسع النص من مدى العالم هنا، ولا يشتبك مع واقع متحول باستمرار، ويبدو التصور المثالى عن العيش داخل الروايات، تعبيرا عن رؤية رومانتيكية للعالم، جاهزة ومثالية فى آن واحد، حيث الخيال ملاذا، وهربا من سطوة الواقع.

ثمة لغة سامقة فى «أحلم وأنا بجوارك»، تحمل نزوعا كلاسيكيا يقترب من الشعر فى مواضع عديدة. وتعد الحوارات هنا جزءا من الرؤية السردية للنص، وتُنوع الكاتبة فى الأداء اللغوى المستخدم فيها، ما بين الفصحى، والعامية، والفصحى المكتوبة بمنطق العامية. 

وبعد.. هذا نص رائق وشفيف لغة ورسما لملامح الشخوص والعالم الواقف على شفا الفقد والشجن.