28 عاما والمواجهة لا تزال مستمرة
الحقيقة الحاضرة فرج فودة شعلة فى تاريخ التنوير

محمود محرم
رغم وفاة القتلة ورحيل معظم المحرضين ، إلا أن أفكارهم السوداء لا زالت ملء السمع والبصر، ولا تزال صيحات التكفير ودعاوى القتل صاخبة، لذا كان لابد من إحياء سيرة وأفكار الرجل الذى وقف بشجاعة فى وجه الظلاميين.. ودفع عمره ثمنًا لذلك.. وهى المواجهة التى مازلنا نحيا فيها حتى الآن مع مشايخ التطرف ورموزه الحاليين من دعاة التشدد والظلام باسم الدين أملا فى الوصول إلى مبتغاهم ومصالحهم.
مع بداية فترة السبعينيات فى مصر بدأت رياح التسلف تهب على المجتمع لتحمل معها أجواء مسمومة لم يعتدها الشارع المصرى فظهرت موجات من الهجوم والنقد والتحريم لرموز ومشايخ الإخوان والسلفية لكل ما هو إبداعى وفنى لينصبوا أنفسهم ناطقين باسم الدين يمنحون من يرونه ثم التدين ويسقطون الدين ويكفرون من يرى غير أفكارهم.
فى هذه الأجواء المشحونة ظهر المفكر الراحل فرج فودة لينتقد بسلاسة أسلوبه وبلاغته الفصيحة وطريقته الساخرة رؤوس الدولة الدينية أو من يدعون إليها ويسقط حجتهم أمام ما يسوقه ويقدمه من براهين فى كتبه ومقالاته جعلته يصل الملايين بسهولة وهو ما جعله هدفا فى مرمى جماعات التيارات الدينية فى هذا التوقيت نظرا بقوة تأثيره ومنطقه.
ورغم مرور 28 عاما على ذكرى اغتيال فرج فودة مازالت ذكراه حية تصرخ ضد جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية الذين أباحوا دمه دون أن يندموا على ما فعلوا بل ازدادوا فجاجة بإعلانهم أنه كان مرتدا ويستحق القتل.
كانت المناظرة التى تصدى فيها فرج فودة لمرشد جماعة الإخوان وقتها مأمون الهضيبى والمفكر محمد عمارة والشيخ محمد الغزالى وجميعهم من أقطاب وفلذات أكباد التشدد والتطرف والتيارات الدينية ، لتعقد المناظرة فى معرض القاهرة للكتاب وخلالها فضح فودة أساطير وأكاذيب الجماعات الإرهابية الدينية والشرعية فى أنشطتهم السياسية والاجتماعية والثقافية وسط الآلاف من مريديهم وقتها دون أن يخشى أحدا.
استشرف فودة خطر الإخوان وتيار الإسلام السياسى فى كتابه «النذير» قائلا: «تيار الإسلام السياسى نجح فى تكوين دولة موازية تستخدم نفس أجهزة ومؤسسات الدولة الحاكمة» وحذر من شرور جماعة الإخوان التى كانت الرافد الأساسى للإرهاب المسلح منذ ثلاثينيات القرن الماضى وأنتجت تيارات وليدة تمارس أشكالا شتى من العنف باسم الدين.
وكان فرج فودة يحلم بدولة مدنية عمادها العدل والسلام والمحبة والتسامح وكان يحارب بقلمه وفكره وكان يرى ويستشعر خطورة وحجم تمدد الفكر المتشدد والمتطرف كى يغزو البلاد العربية تحت راية الإسلام حتى يسهل التهامها ووقوعها فريسة واحدة تلو الأخرى فى قبضة مستعمر قديم جدد أفكاره وطور أدواته ووجد أن أسهل طريقة لغزو الدول هو تدميرها ذاتيا من الداخل وباسم الدين.
ولم يكن يعلم فرج فودة يوم الثامن من يونيو لسنة 1992 أثناء مغادرته مكتبه بالجمعية المصرية للتنوير رفقة ابنه أحمد وصديق له أنها المرة الاخيرة التى سيرى فيها ابنه للمرة الأخيرة بعد أن كان فى انتظاره شابان من الجماعة الإسلامية على دراجة بخارية وفى أثناء توجه فودة لركوب سيارته أطلقوا الرصاص من رشاش آلى فأصاب فرج فودة إصابات بالغة فى الكبد والأمعاء، بينما أصاب صديقه وابنه إصابات طفيفة، وانطلقا هاربين.
وجاءت عملية الاغتيال بتكليف مباشر من صفوت عبدالغنى أحد قيادات الجناح العسكرى للجماعة الإسلامية من داخل محبسه والذى كان مسجونا بتهمة اغتيال رئيس مجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب (أكتوبر 1990)، ونقل محاميه للقتلة التكليف وبدأ فى تنفيذه وفى يوم الاثنين 8 يونيو 1992 تحرك عبدالشافى رمضان(26 عاما)، وأشرف السعيد(29 عاما) بتكليف من صفوت عبدالغنى واستقلا دراجة بخارية بعد أن جهز لهما الأسلحة والذخائر إرهابى آخر وهو أبو العلا عبد ربه (قتل فى سوريا فى 2017).
فى نفس اليوم نشرت الجماعة الإسلامية بيانا أعلنت فيه مسئوليتها عن اغتياله وأنها قتلته تطبيقا لفتوى علماء الأزهر ورحبت جماعة الإخوان فى اليوم التالى من خلال متحدثها الرسمى مأمون الهضيبى باغتيال فرج فودة.
ولد فرج فودة فى عام 1945 ببلدة الزرقا بمحافظة دمياط حصل على درجة البكالوريوس فى الاقتصاد الزراعى من جامعة عين شمس فى يونيو 1967 وفى الشهر نفسه استشهد شقيقه الملازم محيى الدين فودة والذى كان يصغره بعام واحد فى حرب 5 يونيو 1967 ولم يتم العثور على جثمانه.
عمل معيدا بكلية الزراعة فى جامعة عين شمس وحصل على درجة الماجستير فى الاقتصاد الزراعى عام 1975 ثم على درجة دكتوراه الفلسفة فى الاقتصاد الزراعى من جامعة عين شمس فى ديسمبر 1981، وكان عنوان رسالته: «اقتصاديات ترشيد استخدام مياه الرى فى مصر».
التحق فودة بحزب الوفد الليبرالى عقب تأسيسه ثم تركه عندما تحالف الوفد مع جماعة الإخوان انتخابياً فى عام 1984 وحاول تأسيس حزب علمانى لكنه مات دون تحقيق حلمه. وتبنى فودة مقولة أساسية مفادها أن فكرة الدولة مدنية بالأساس وأن عكس دولة مدنية هى عسكرية وليست دينية وعبر صفحات كتبه ومقالاته تنبأ بسقوط العراق وصعود جماعة الإخوان للحكم ثم سقوطهم بشكل سريع ومدوٍ وتقسيم السودان على يد الإخوان.
عاش فودة مرحلة شبابه فى الستينيات والتى شهدت البدايات الأولى للتنظيمات المسلحة الإرهابية عن طريق جماعة الإخوان وهو ما ساهم فى انتشار التطرف فى أحياء بأكملها سيطر عليها الإرهاب وقلب واقعها إلى الماضى البعيد حيث الجلابيب القصيرة وفرض النقاب على النساء واضطهاد المسيحيين ومناداتهم بـ«أهل الذمة».
ألف فودة العديد من الكتب حول أزمة التطرف فى مصر ومن أهمها: «النذير، والإرهاب، وزواج المتعة، وحوار حول العلمانية وأشهر الكتب التى سجلت أفكار فرج فودة وتطرقت لأطروحات التنظيمات المتشددة «الحقيقة الغائبة» وهو كتاب حاول فيه الرد على محمد عبد السلام فرج وكتابه كتاب «الفريضة الغائبة» الذى كتبه عام 1980 ويحمل تأصيلا فكريا ومنهاجا للحركات الجهادية حينئذ وكان المشروع التنويرى لفرج فودة يعتمد فى المقام الأول على نقد الإسلام السياسى التاريخى وحتمية الاجتهاد وإعمال العقل والدفاع عن أسس الدولة المدنية الحديثة.
كما حاول فرج فودة معالجة قضية العلاقة بين الإسلام والحداثة، واعتبر أن هناك فرقا كبيرا بين الإسلام كدين والإسلام كدولة ، حيث اعتمد فودة على أن الدين جزء من مكونات الشخصية المصرية، وأن أولى خطوات التنوير أن يدرك أنصار التيارات المتشددة أنهم ليسوا وحدهم جماعة المسلمين أو أنهم أوصياء وحراس على إيمان الآخرين وعقيدتهم بينما يعتبر كتاب «الملعوب» نقدا للتيار الإسلامى الثوري، وأنه تيار يمثله أصحاب الثروات المتضخمة التى تكونت نتيجة للعمل فى المملكة العربية السعودية أو فى مصر بعد الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات، ومدى تأثيره على الاقتصاد المصرى وتدميره مدخرات المصريين من خلال شركات توظيف الأموال، كما يعتبر كتابه «النذير» تاريخا لحركات الإسلام السياسى واستغلالها لرؤيته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتحقيق مشاريعها والتغلغل داخل المجتمعات.
وبالرغم من محاولات فودة طوال أكثر من 20 عاما لم يتمكن من الانتصار على التطرف فى النهاية لكنه فنده بكل تفاصيله فى كتبه ومقالاته ولم يترك منه شيئا إلا وكشف عورته أمام المجتمع والدولة حتى فى بعض التفاصيل الحساسة مثل رأيه فى إشكالية «حجاب المرأة» حيث آمن بأن الإسلام لم يفرض غطاء الرأس على المرأة وذكر وفسر ذلك فى مناظرات وأحاديث تليفزيونية، وواجه وقتها أشد الهجوم من المتطرفين.
هشام النجار الباحث فى شئون الحركات الاسلامية اكد على ان فرج فودة هو علامة فارقة فى تاريخ التنوير الفكرى المصرى والعربى وأحد أهم من واجهوا الفكر المتطرف والإرهابى بحكمة وعقلانية وبقلمه وموهبته الخطابية السلسلة ومحاوراته ومناظراته المؤثرة ولقاءاته التلفزيونية المعمقة وكتبه التى تعد زادا تنويريا راقيا.
وأضاف النجار: فى مجمل هذا الإنتاج المقروء والمرئى والمسموع عبر تاريخ نضاله الفكرى المشهود ضد هذا الفكر التكفيرى وأساطينه نلحظ سريعا هذه المميزات: أولا ثقافته وتبحره فى الفكر والتاريخ الإسلامى أتاح له إلحاق هزائم كبيرة برموز هذا التيار التكفيرى لأنه كان يناظرهم ويناقشهم من أرضية إسلامية عقلانية وسطية.. ثانيا أسلوبه السلس البسيط العميق لاذع السخرية منحه القدرة المضاعفة على التأثير.. ثالثاً تمسكه بأخلاقيات الحوار ونيل الخصومة وشرف المثقف المستنير جعله أخلاقيا اعلى من خصومه الذين تميزوا بالخديعة والخسة حيث عمدوا للتحريض ضده وتكفيره بعد أن هزمهم بفكره فى ساحة الحوار.
ومن جانبه قال طارق البشبيشى القيادى الإخوانى المنشق واحد الحضور الذين شهدوا المناظرة بين فرج فودة والهضيبى عام 1992 أن مأمون الهضيبى كان يتباهى ويفتخر بجرائم التنظيم الخاص السرى ويفتخر بقتل النقراشى ويقول إن الدكتور فرج فودة يعيرنا بالتنظيم الخاص المسلح ونحن نرد عليه الآن ونقول بأننا نفتخر ونتقرب إلى الله بعمليات التنظيم الخاص.
وأشار إلى أن المناظرة لم تكن عادلة وكنا نصيح بصوت عال بالتكبير عندما يتحدث الهضيبى وعندما يتحدث فودة كنا نصيح بأصوات مرتفعة للشوشرة عليه مشيرا إلى أن المناظرة سيطر على منصتها أصحاب التوجه المتأسلم ولم يسمحوا بأوقات متساوية للاتجاه الآخر مستقوين بغوغائية الحضور وهتافاتهم المعادية لفرج فودة والدكتور محمد خلف الله، مؤكدا أنها كانت تحريضا وليست مناظرة وبعد المناظرة أهدروا دمه ورأيت كيف تحولت المناظرة إلى تحريض صريح على إهدار دم فرج فودة وكيف هيج عمارة والغزالى ومأمون الهضيبى الجماهير على فودة بعد أن هزمهم بالحجة والمنطق.
قالوا عنه
■ قال ثروت الخرباوى القيادى المنشق عن جماعة الإخوان والمفكر السياسى إن فرج فودة كان كاتبا صحفيا يحترم العقل والمنطق وكان يفكر جيدا فى كل الأمور قبل التحدث بها وكان هذا سلاحه فى الندوة التى استطاع أن يفوز بها. وأشار إلى أن العقلية الجمعية التى تسيطر على أعداد كبيرة وتقود الإرهاب يجب أن يتم تفكيكها مشيرا إلى أن المغيبين عن العقل يجب أن يتم توجيههم بفكر سليم.
■ وقال إبراهيم ربيع القيادى الباحث عن شئون الحركات الإسلامية: إن الدكتور فرج فودة هو الوحيد من جيله الذى استطاع مواجهة خفافيش الظلام فى ذروة تفحشها وقوتها.
وأشار إلى أن فودة كشف حقيقة التأسلم وإشكالياته وخطره على الأديان والإنسان والأوطان وامتلك شجاعة المواجهة ودفع حياته ثمنا للمواجهة التى لا تقبل المراوغة كما امتلك مشروعا مستقبليا ورؤية للحل.
تحقيقات النيابة
المتهم الأول فى القضية عبد الشافى أحمد فى اعترافاته أمام نيابة أمن الدولة العليا: قررت تنفيذ فتوى عمر عبد الرحمن بقتل الدكتور فرج فودة، خاصة أن جبهة علماء الأزهر أباحت دمه أيضا، وأفتت بتكفيره، وصدر لنا تكليف من الدكتور صفوت عبد الغنى من خلال محام يدعى منصور كان يزوره فى السجن باستمرار وينقل لنا التكليفات، مؤكدا أن المحامى أبلغهم برسالة صفوت بالبحث عن شخص مناسب من أعضاء الجماعة لقتل الدكتور فرج فودة، وأبلغته باستعدادى للتنفيذ.
■ المحقق: هل تعرف الدكتور فرج فودة؟ وهل قرأت كتبه؟
- أجاب المتهم: لا فأنا لا أقرأ ولا أكتب، لكنه سمع من قادة الجماعة أنه يهاجم الإسلام ويدعو للكفر والإباحة والعلمانية. ■ سأله المحقق: هل تعرف معنى العلمانية؟
- قال نعم أعرفها هى الكفر وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية وإباحة المنكرات مضيفا أن فودة كان يدعو لرفع الهلال مع الصليب ويطالب بمساواة المسيحيين مع المسلمين فى الحقوق والواجبات، لذا قررت أن أقوم بقتله وتخليص المسلمين منه ومن أفكاره.
ويقول المتهم عبد الشافى: قمنا بإطلاق الرصاص عليه قاصدين قتله هو فقط، دون ابنه وصديقه مضيفا بالقول :إنه عقب تنفيذ العملية طاردهم سائق الدكتور فودة وتمكن من الإمساك به فيما فر شريكه الآخر أشرف إبراهيم هاربا.