الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«حرب كبيرة».. جدل الواقع والفنتازيا

«حرب كبيرة».. جدل الواقع والفنتازيا

تؤسس مجموعة «حرب كبيرة» للقاص والروائى هشام البواردي، والصادرة فى القاهرة عن دار «المرايا»، لمنطقها الجمالى الخاص حين تنطلق من الواقع دائمًا، غير أنها فى التصاقها الشديد بالواقع تحيا معه حالة اتصال وانفصال، فتتصل به حين تجمع حكاياتها من فضائه المتسع وتنفصل عنه حين تتأمله وتسائله على نحو ساخر، تبدو فيه السخرية مركزًا فى النظر إلى العالم، أما الأهم فى المجموعة حقًا فيتمثل فى مساحات الفنتازيا التى تبدأ من الواقع نفسه وتنتهى به، وهى فنتازيا تقوم على استكشاف المساحات غير المأهولة فى هذا الواقع، حيث يبدو فيها الواقع  - وباختصار- غالبًا للخيال ومتجاوزا إياه. الواقع الذى يحضر منذ القصة الأولى «حرب كبيرة» التى تنتفض فيها البلدة بأكملها لمشهد التصاق الكلبين، ولا تهدأ ثائرة الجموع الغاضبة إلا بفك الارتباط بين الكلب البنى الأجرب، والكلبة السوداء وحينما يستقر الرأى بعد أن باءت محاولات الضرب والحرق فى مكان الالتصاق بالفشل تتفتق الذهنية اليقظة بحق الكلبين، والنائمة فى جوهرها، عن ربطهما بحبلين والمباعدة بينهما مسافة طويلة تعتصر فيها أعضاء الكلبين اللذين يموتان لا محالة متكومين على بعضهما وملتصقين أيضا بمعنى من المعاني، ليعم الفرح ونشوة الانتصار الزائف البلدة التعيسة، هذا المعنى الذى نجده حاضرا أيضا فى قصة «موت حمار ليلى»، حيث تحاك الخطط من أجل استدراج الحمار بعيدًا عن ليلى البلهاء المسكينة التى تحيا ولعا نفسيا بهذا الحمار؛ لأنه الوحيد الذى يسمعها، حيث تحيا شعورا بالاغتراب الشامل ضاعف من مأساتها العقلية حيث تنفصل عن البنية الاجتماعية المحيطة بها.



 وبمنطق سيكولوجية الحشود الذى يبدو ماثلا فى المجموعة، وفى طبيعة التكوينات الاجتماعية الممثلة داخلها، تنطلق جملة ضالة لا أحد يعرف من قائلها، ولا أحد يتوقف ليسأل عنها، لكن الجميع يتلقفها بوصفها «أم الحقائق» المفجرة لقيم الشرف والمروءة الغائبة!. وتتناثر الأحاديث الليلية عن العلاقة المشبوهة بين ليلى والحمار، وتصبح مركزا للسرد داخل القصة وأساسا للتحول الدرامى داخلها حيث يقرر المجموع الخلاص من الحمار. وتتكرر أدوات القتل والترهيب من التفكير فى الرجم بالحجارة إلى القتل إلى الحرق إلى الرمى فى المصرف فى نهاية المطاف. وكان يمكن أن يصبح ظهور الثعبان والخفافيش التى تملأ المكان وتصدر حركة عشوائية جراء الحشود الهائلة ممثلا لأفق جديد للنص لو استثمره الكاتب.

 يتداخل المقدس مع الاجتماعى هنا، ويصبح الوعى الشعبى خليطا بينهما، تائها وغارقا فى القسوة والخرافة معا. أما الأدهى حقا فهو تمرير القسوة التى لا يراها وجدان الحشود المتجمعة هكذا، والتى يفرغ فيها المجموع طاقات من العنف والعدوان اللانهائى واللامبرر أيضا.

فى قصة ( الحب والكره) يصنع البواردى المفارقة عبر استحضار التفاصيل الصغيرة، المصبوغة بحس ساخر، مثلما نرى فى مفتتح القصة ( من أجل أبنائه ترك الطبلة، وخلع القميص والبنطلون، وفازلين الشعر شحّته، ومشط الشعر الأسود الذى كان يضعه فى جيب القميص، ويصحبه معه فى كل مكان، رماه، وهجر عالمه القديم كله، واستقر فى عمله جزمجيا».

تعد السخرية جزءا أصيلا من الفن هنا، سنراها أيضا على نحو بارز فى قصة (المبصر والكفيف)، التى تنحو صوب استخدام التيمة ذاتها المتعلقة بما يمكن تسميته بمهن الهامش داخل النسق الريفي، فهو بائع للبخت، الذى يشتريه الأطفال، حيث مثلت لعبة البخت جزءا من تراث اللعب الريفى فى القرى المصرية: « فالبخت بشلن، وطبيعى أن يكون الإنسان الذى أغلق البخت يعرف ما وضع فيه قبل أن يغلقه، ويجب أن يكون أقل من شلن، لكن الإنسان الذى يشترى البخت يتمنى دائمًا أن يكون حظه فى كل مرة أفضل.. لكن دائما ما يكون حظه أقل من الشلن الذى اشترى به بخته. وعلى كل فقد كان الشيخ سليم اللبان مغفلا أكثر من صانع البخت ومن مشتريه».

بدت الجملة الختامية فى ( النور والظلام) تفسيرا لمدلول القصة «وكان شيء ناعم وطرى داخل روح الولد قد شنق»، فالمتلقى لم يعد شريكا سلبيا يتلقى المعنى الجاهز، وإنما أصبح شريكا فاعلا فى إنتاج المعنى داخل القصة.

 وتنهض قصص ( المبصر والكفيف ) و(الحب والكره) و(النور والظلام) على تقنية المفارقة بتنويعاتها اللفظية والدرامية، فنور فى قصة ( النور والظلام) تكره الموسيقى التى كلفها الناظر بمهمة تدريسها بعد قرار من وزارة التربية والتعليم بضرورة تدريس الموسيقى، ونور موظفة إدارية لا تعرف شيئا، أقصى غاياتها أن تمر على الفصول لتكتب الطلبة الغائبين، وأعلى أمانيها أن تدرس موادا دراسية تقليدية مثل زميلتيها،  فتدخل نور الفصل معلنة صمتا طويلا يخترقه صوت أحد التلاميذ فى الصف الرابع الابتدائي، وحينما يتجاوب زملاؤه مع غنائه الجميل يجن جنونها، وتطبق فى هيستيريا على حنجرته، فى مشهد مأسوى شديد المعنى والدلالة.

تساءل قصة «الصور» الذهنية العامة حين تنطلق من تصورات شعبوية يغذيها تراث فقهى متشدد، وتصبح الحوارات السردية هنا جزءا من بنية النص القصصى والتوصيفات البصرية تقنية أساسية داخله.

سنجد فى «حرب كبيرة» اللبان والإسكافى وبائع البخت والحلاق، والخياط، وغيرهم، حتى العمدة الفاشل يصبح سر إخفاقه أنه من الأغراب وليس من أصل البلدة، لا تبحث المجموعة عن الهوامش ولا تتوخاها فحسب، قدر ما تبحث عن ذوات تائهة وممزقة فى زحام الواقع وتفاصيله القاسية المحاطة بالسخرية والمرارة، والروح الباحثة عن الحياة حتى لو بدت خارجة من رحم الموت وقسوته.