السبت 29 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
«محاولة الإيقاع بشبح».. لعبة الاجترار والخيال المكتنز

«محاولة الإيقاع بشبح».. لعبة الاجترار والخيال المكتنز

تطل عوالم القاص والروائى هانى عبدالمريد فى روايته (محاولة الإيقاع بشبح)، والصادرة عن (الدار المصرية اللبنانية) بالقاهرة، حيث التداخل الناعم بين الفنتازى والواقعى، والحضور الواعد لآلية السخرية، وما يمكن أن أسميه بتطريف الحقيقي، وملؤه بالغرابة الدائمة.



ثمة مشروع سردى ممتد يعمل عليه الكاتب، منذ (إغماءة داخل تابوت)، و(عمود رخامى فى منتصف الحلبة)، و(شجرة جافة للصلب)، وهى النصوص الثلاثة الممهدة لعالم وسيع بدأه عبدالمريد فيما بعد على نحو أبرز فى روايته (كيرياليسون)، وما تلاها من نصوص سردية، من قبيل ( أساطير الأولين) و(أنا العالم) و(تدريجيا وببطء).

يبدو العنوان فى (محاولة الإيقاع بشبح) بنية دالة، قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار الروائي، فالشبح الحاضر فى العنوان هو الدال المركزى فى الرواية، والمفردة  الأثيرة داخلها، لكنه كأى شبح، لا يحضر بانتظام، إنه يلوح ويختفى، يظهر ويغيب، لكن فكرة الشبح بمعناها المألوف، حيث الإشارة إلى طيف خيالى وهمي، تأخذ أبعادا متعددة فى الرواية. تتواتر تيمة «الشبح» فى الأدب العالمى، ففى «هاملت» لشكسبير، يريد الشبح الانتقام ويحض عليه أيضا، وفى مسرحية (الأشباح ) لهنريك إبسن يصبح الواقع الكذوب الذى يدينه إبسن هو نفسه الواقع الشبحي، وتصبح الحدود الفاصلة بينهما واهية، حيث مراوغات البرجوازية التى تشبه حركة الأشباح. إنها الحركة الشبحية إذن التى ربما نجدها فى رواية هانى عبدالمريد، وليس فقط ما يلوح ويختفى، أى حركة الأطياف البشرية الموغلة فى الواقع، لكل من شخوص الرواية (يامن) و(هانم) والخال الضرير (يونس)، ومعهم  البشر المتحولين إلى دُمى أو تماثيل (مرزوق/ مازن/ فريدة)، ليحل السكون محل الحركة، إنها حركة النص ذاته، بأطيافه وأحلامه، وجدله بين المتخيل والواقعي، ومحاولة القبض على عالم مراوغ، ابن السؤال، واللعب، والحكاية. ابن الطزاجة، والبكارة، والتركيب أيضا.

ثمة أسرة مركزية فى الرواية، أسرة (هانم) التى تسعى لإعادة ابنيها (مازن) و(فريدة) إلى الحياة من جديد، واستعادة زوجها (مرزوق) الثابت فى مكانه بلا حراك. تمثل هذه العائلة الغرائبية بؤرة السرد فى الرواية، إنها مركز الحكى وجوهره داخلها، وتبدو مصائرها مثل الأبطال التراجيديين، الذين تنسحب عليهم اللعنة، لذا فالنص هنا يبدو جماعا لتصورات مختلفة، تتجادل فيها الأسطورة مع الواقع.

تُفلت هانم ابنها المتبقى ( يامن)، بإبعاده عن البيت وإرساله إلى خاله (يونس)، وتحمل الأسماء هنا دلالات بارزة، فيامن اسم يدل على الجسارة والمغامرة، وهو صاحب البركة أيضا فى المعنى القاموسي، وفى النص هو الناجى الوحيد من مذبحة التحولات الدراماتيكية التى تحدث للأسرة مع أمه هانم، فالكل يتحول إلى دُمى ثابتة، ما عداهما.

تذهب (هانم) للخال الضرير (يونس)، فى نقطة للتحول الدرامى داخل النص، وهناك يبدآن (يونس ويامن) فى اللعب معا، وفى استكشاف مساحات أعمق داخل الروح، ومناطق غير مأهولة فى النفس البشرية.

يمارس (يونس) و(يامن) لعبة شبحية، تنهض على التخيل، والاجترار، ومن ورائهما تتسع مساحات التخييل والتأويل داخل الرواية، حيث يصبح استدعاء لفظة واحدة مثل «شبح»، أو«الجنون»، محفزة لمزيد من الحكايات عنهما، لتصبح المفردة تكئة لاجترار عشرات المعانى والصور السردية: («الجنون»، قالها الخال بعدما رشف من كوب الشاى  رشفة لها صوت، ونظر لى معلنا التحدى كعادته. كانت لعبتنا قد تطورت مع الزمن، ومع تكرار لعبنا بشكل شبه يومى، لم نعد نكتفى بالتعريفات البسيطة؛ صمت مفكرا قليلا.. صار الأمر بالنسبة لى كرياضة عقلية اعتدتها، كطريق اعتدت السير عليه جيئة وذهابا؛ حتى صرت أصل بأنسب الطرق وأقل مجهود؛ وجدتنى أقول:«لقد وقفت ذات يوم على حافة الجنون، كان الجنون مبنى كبيرا مرتفعا، كان ناطحة سحاب؛ قمت فوق سطحه غير المسور، اقتربت من الحافة بلا أى حسابات، الناس بأسفل يتعجبون من إقدامى، كلما اقتربت تعلقت عيونهم بى، وأنا على الحافة تماما،..)، وتختتم الرواية باللعبة ذاتها، حيث تحضر المفردة المركزية فى الرواية ( شبح) مثلما بدأت بها أيضا، وكأن ثمة إصرارا على اللعبة، وعلى التماس بين المرئى واللامرئى.

يبدو الحضور النصى الأول لإحدى مشتقات مفردة الشبح ودوائرها، من خلال التوصيف لما يبصره يونس الضرير بأنه (أشكال شبحية) غير واضحة المعالم، يرتبط الشبح بدلالة نصية مع يونس تتصل بحركته فى الحياة وعيشه على الخيالات، ويتصل بيامن بوصفه تعبيرا عن عالم مرواغ يصنعه الكاتب الذى لا يقدم أحاجى أو ألغازا، لكنه يقدم عالما مسكونا بالحكاية التى تتوزع مستوياتها فى الرواية على نحو لافت. حيث يمكننا أن نتلمس مستويات مختلفة من الحكاية داخل (محاولة الإيقاع بشبح) بدءا من الحكايات المتبادلة بين «يامن» وخاله، ومرورا بالحكايات الداخلية المروية على لسان الأم والتى تحكيها للتماثيل الثلاثة كى تدب فيها الحياة، فضلا عن الحكايات الخارجية التى يضفر بها الكاتب نصه مثل حكاية (الحمّال والبنات)، أو حكاية (الرجل وجنيته العاشقة)، وهناك أيضا العجوز التى تحكى لهانم وتمدها بالحكايات، حيث تعتقد هانم بقدرة الحكايات على بعث الروح من جديد.

ومن داخل النص أيضا هناك حكاية (حسين) و(فوفا)، «وفوفا» هى المرأة التى تلوح مثل طيف ليامن ويونس، وتعانى من واقع مفرط فى القسوة على يد زوجها حسين، الذى يعد عنوانا على شبح جديد، لكنه شبح واقعى هذه المرة.

تعتمد الرواية بنائيا على تداخل الأصوات، فالفصول مروية عبر أكثر من راوٍ، ويتحدد راويان مركزيان هما (يامن) وأمه (هانم)، وتخضع الرواية لاستراتيجية محددة فى البناء، فثمة فصل يرويه «يامن» وفصل آخر ترويه «هانم» وهكذا، وكلاهما يكمل الرؤية السردية للآخر.

وبعد.. تعد «محاولة الإيقاع بشبح» تعبيرا سرديا عن كتابة تستلهم الشغف، والأسطورة، والخيال المكتنز، فى بنية سردية متناغمة، لكاتب يكرس لمشروعه السردى بدأب، ووعي، ونضج حقيقى.