الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 42

لغة الجينات 42

الوضوح والصراحة، أهم سلاح ممكن تمتلكه فى مواجهة الخبثاء، الشخص الخبيث فى الظاهر، يتعامل مع الجميع بالحيل، يستغل عواطف الناس استغلالا سيئا لصالحه... يتعمد إثارة إحساسك حتى يحصل على غرضه منك، يثير عطف وشفقة كل من يلتقيه.. يلعب دور المظلوم المغلوب على أمره بمهارة... وفى الباطن يجيد فن المراوغة والمناورة، يجيد الهرب من زلات اللسان، كل معاركه يديرها بوكلاء أشبه بالعبيد ينفذون طلباته وأوامره بلا تفكير طمعا فى رضاه.. يجيد إحداث نوع من التشتيت لمحدثه من خلال الردود الدبلوماسية التى فيها مداراة وتورية... كل تصرفاته وحركاته تحمل الكثير من التأويلات، وتتَّسم بالغموض.



فى الظاهر ينقسم الخبثاء فريقين.. فريق يرتدى زيا أحمر والنصف الآخر يرتدى زيا أبيض.. وفى الباطن لا يختلف من يرتدى الأبيض عمن يرتدى الأحمر فى شىء.. الفريقان يبدآن عملية الترويض للفيل الضخم المسكين.

فى الظاهر يبدأ من يرتدون الزى الأحمر فى تعذيب الفيل المسكين يوميا حفلة ضرب وتعذيب وشائعات وتلويث سمعة بالباطل.. والفيل المسكين مقيد لايستطيع الحركة أو الدفاع عن نفسه.. وفى نهاية الحفلة يأتى الخبثاء ممن يرتدون الأبيض، فيطردون الأشرار ويربتون على كتف ورأس الفيل ويقدمون له الطعام والشراب ويتسامرون معه ويتقربون منه.. ثم يذهبون  دون أن  يخرجوه من مأزقه والحفرة التى أسقطوه فيها.. وتتكرر حفلة التعذيب والضرب يوميا وتتكرر معها عملية الطرد للأشرار والمداهنة بالاقتراب والإيهام بمد يد المساعدة.. تستمر هذه الحيلة  لمدة أسبوع كامل.. فى الباطن يبدأ الفيل فى الثقة فيمن يرتدون الأبيض.. يشعر معهم بالطمأنينة وأنهم الخلاص لكل ماهو فيه.. ولدرجة أنه يبدأ يوميا مع حفلة الضرب انتظارهم لتخليصه.. ويشعر الفيل بحب ومودة كبيرة للخبثاء أصحاب الزى الأبيض.... فى هذه اللحظة ظاهريا الخبثاء ممن يرتدون الأبيض بيساعدوا الفيل ويخرجوه من ورطته ومأزقه ويطردوا الخبثاء ممن يرتدون الزى الأحمر.. وفى الباطن بيكون الفريقان نفذا خطتهما بنجاح ساحق.. سيطرا عليه تماما، اتأكدوا من عملية خضوعه واذعانه.. وأنه بقا زى الخاتم فى صباعهم فيسير خلفهم بلا تفكير.. لايخطر فى باله على الإطلاق أن هؤلاء من يدعون الطيبة هم شركاء فى مصيبته.. شركاء فى جريمة إسقاطه فى الحفرة وتحويله إلى شخص بلا قيمة أو هوية أو مستقبل.. لا يفكر أبدا لماذا استطاعوا أن ينقذوه فى النهاية ولماذا لم ينقذوه من اليوم الأول.. لماذا كانوا يكتفون بطرد الأشرار وتركه فى الحفرة.. لماذا تركوه كل هذا الوقت يتعرض لذلك التعذيب... ولماذا أخرجوه الآن؟!

«أصحاب الجينات الأصلية» لايعرفون هذا الخبث.. لا يعرفون إلا الطيبة.. والصراحة، والوضوح فهى من أخلاق الكبار، وأصحاب النفوس الكبيرة؛ فهم الوحيدون القادرون على قول الحق، وامتلاك الشجاعة التى يواجهون بها الآخرين.. أصحاب الجينات الأصلية فى الظاهر والباطن قادرون على قول الحق دون مداراه أو تلفيق أو مجاملة.. لديهم الشجاعة الأدبية الكافية لمواجهة الآخرين بخطئهم.

الفنان الكبير «حسن البارودى» واحد ممن امتلكوا الجينات الأصلية.. فى الظاهر  عملاق التمثيل وصاحب الصوت المميز والأدوار التى لا تنسى.. عم مدبولى الطيب فى فيلم باب الحديد وقوله الذى لا ينسى: «قناوى يابنى.. البس بدلة الفرح.. هاجوزك هنومة»، وكلماته التى تجسد النفاق السياسى الذى يرتدى عباءة الدين فى كل العصور وهو يتحدث إلى الفلاح الفقير أبوالعلا فى فيلم الزوجة الثانية: «العمدة عاوز يناسبك يا أبوالعلا.. انطاع يا ابنى إحنا غلابة.. طلق فاطمة واتجوز غيرها البلد مليانة بنات حلوة.. ده ربنا بيقول وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم».... وفى الباطن مثقف ومترجم شارك فى بطولة 3 أفلام عالمية بعد إعجاب المخرجين الأجانب بصوته وطريقة أدائه المميزة وقوته فى التمثيل وإتقانه للغة الإنجليزية... يقول الحق دائما.. لم يعرف المداهنة أو اللعب على كل الحبال.. فلم يكن له شلة ولم يكن من المقربين  فأخرجوه على المعاش.. ويومها قال اليوم مت.

«البارودى» فى الظاهر فنان كبير.. وصفته كوكب الشرق أم كلثوم بأنه أكثر الأصوات التى تعجبها، قائلة «حسن البارودى يغنى على المسرح بتعبيراته وقوة صوته»... وفى الباطن هو نجم الصالون الأدبى لكوكب الشرق، وكانت تدعوه دائما لحضور الصالونات الأدبية التى تقيمها بمنزلها، حتى أنها كانت ترفض أن يبدأ النقاش إلا بعد حضوره، وفى إحدى المرات تأخر وطلب الكاتب مصطفى أمين من أم كلثوم أن تبدأ الجلسات، ولكنها رفضت حتى يحضر».

فى الظاهر.. ظل البارودى اسما كبيرا ملئ السمع والبصر.. وفى الباطن وكالعادة تخلى عنه الكثيرون.. وضاقت الدنيا عليه، فقد تمت إحالته للمعاش، وزاد الأمر حالته النفسية سوءًا بعد ما تعرض لضعف شديد بالنظر وكان مهددا بـ«العمى»، فحاول السفر إلى الخارج للعلاج، ولكن اعتذر له المسئولون لعدم وجود ميزانية، وكان بالفعل سيصبح أعمى.. لولا تدخل  كوكب  الشرق أم كلثوم بنفسها والتى أجرت اتصالات على أعلى المستويات، وأنهت كل الإجراءات ليسافر إلى لندن لإجراء العملية».

احذروا «الخبثاء «أصحاب الجينات الخبيثة.. فالصراحة والوضوح من أخلاق الكبار وأصحاب النفوس الكبيرة؛ التى تحترم نفسها فتأبى عليها إلا القول بالحقيقة والبُعد عن الغموض؛ فأصحاب النفوس الكبيرة لايعرفون إلا الصفاء والنقاء، فلا يضطرهم مركز أو يُجبرهم سلطان على أن يقولوا غير الحقيقة فى صراحة ووضوح.