
رشاد كامل
كانت «كلثوم» فأصبحت «أم كلثوم»!
كان ظهور «أم كلثوم» إيذانًا ببداية عصر جديد فى الغناء العربى وانقضاء عصر قديم، ولو كانت أم كلثوم مجرد صوت جميل يغنى وأسلوب العصر الذى ظهر فيه ولا يزيد «عليه» شىء ولا يغير فيه ولا يبدل، ولا يضع جديدًا فى مكان القديم ولا يحيى أرضًا مواتًا ولا يزرع صحراءً قاحلة، لما كان لأم كلثوم أثر فى الغناء العربى طوال حياتها، ولما بقى لها أثر بعد مماتها ولرأينا الغناء العربى واقفًا فى مكانه الذى كان فيه سنة 1922 عندما تقدمت أم كلثوم إلى جمهور قليل تغنى لأول مرة فى ركن خشبى من حديقة الأزبكية بالقاهرة، مرتدية ملابس فتى أعرابى يضع على رأسه عقالًا ذا أضلاع. بهذه السطور يرصد الأستاذ كمال النجمى بدايات أم كلثوم فى كتابه الرائع تراث الغناء العربى ثم يروى هذه الواقعة:
«بهرت الصبية بصوتها وأدائها فى الإنشاد الدينى كل الحاضرين، وسُئل أباها يومئذ عن اسمها فقال «كلثوم» كان اسمها كذلك على لسان والدها منذ بدأت تشاركه حرفة الإنشاد مرتدية زيًا رجاليًا، كأنما كان أبوها يحاول إخفاء حقيقتها الأنثوية!
وظل اسمها كذلك حتى غنت فى مولد الحسين بحى الأزهر لأول مرة سنة 1919 بمبادرة من الشيخ زكريا أحمد الذى كان هدفه تعريف جمهور القاهرة بهذا الصوت الجديد وتشجيع صاحبته على الخروج قليلًا من الإنشاد الدينى إلى الغناء الدنيوى!
وسأله الناس عن اسمها فقال زكريا «أم كلثوم».. ولم يستسغ الناس اسمها لأول وهلة، فهى فتاة صغيرة السن ضئيلة القد غير متزوجة، فمن أين لها لقب «أم» الذى سبق «كلثوم»؟ وكأنهم ظنوا أن «أم كلثوم» المطربة الصغيرة هى أول فتاة تسمى بهذا الاسم العربى العريق!
ثم دار الزمان بسرعة وخلعت المطربة السمراء البدوية الصغيرة ملابسها التنكرية وغنت على نغمات التخت بعد أن كان صوتها هو كل «عدتها» فى الغناء، وصارت أم كلثوم من أشهر الأسماء فى مصر والعالم العربى خلال سنوات قلائل، وتقافزت حولها خلال العشرينيات وأوائل الثلاثينيات مغنيات كثيرات يحسدنها على نجاحها العظيم!
وأطلقت إحداهن على نفسها اسم «أم كلثوم» ونزلت إلى ميدان الغناء متحدية أم كلثوم الحقيقية التى لم تجد بدًا من توزيع إعلانات باليد، نشرتها الصحف بعد ذلك، تقول فيها ما معناه، أنا وحدى أم كلثوم الأصلية.. أنا أم كلثوم إبراهيم البلتاجى، وأما «أمهات كلثوم» الأخريات فإنهن «أمهات كلثوم» زائفات لا يعترف «كلثوم» بأمومتهن فى فن الغناء!
تلك كانت أول معركة لأم كلثوم ضد «أمهات كلثوم» اللاتى أردن أن يشاركنها مجدها، أوينتزعنه منها وهى فى بداية طريقها الفنى!!
كانت مطربات العشرينيات اللاتى انتحلن اسم أم كلثوم يتصورن - وهن غارقات فى تخلفهن الفنى - أن اسمها يكفى لجمع المستمعين حولهن كما اجتمعوا حولها، فكثرت «أمهات كلثوم» اللاتى لم يفهمن أن سر نجاح أم كلثوم فى فنها وصوتها لا فى اسمها!
وبقيت أم كلثوم الأصلية كما وصفت نفسها فى الإعلان الذى وزعه أنصارها بأيديهم، وعصفت الأيام «بأمهات كلثوم» الزائفات اللاتى حاولن إزاحتها عن الطريق فى نشأتها ولكن أولئك الأمهات لم يكن سوى سحابة صيف سرعان ما انقشعت تحت حرارة شمس أم كلثوم، وعندئذ اتخذت «أمهات كلثوم» وسيلة أخرى للبقاء والنماء فى عصر أم كلثوم فبدأن يقلدنها فى الأداء، ويتشبهن بها حتى فى الإمساك بمنديل تشده وترخيه وهى متسلطنة فى الغناء للجمهور!
ولم يفت الأستاذ كمال النجمى بثقافته الموسوعية الرائعة أن يعطينا هذه المعلومة فيقول: و«الكلثوم» فى بعض معانيه اللغوية هو «الراية الحريرية» يرفعها الجندى فوق رأسه.. فلا غرو أن كانت «أم كلثوم» وما زالت راية الحرير الخفاقة، ولم يزل «الكلثوم» ملء أسماع العرب منذ علق الشاعر الفارسى الجاهلى «عمر بن كلثوم» معلقته الحماسية المشهورة «الآهبى بصحنك فأصبحينا» على الكعبة فى مكة قبل أربعة عشر قرنًا فتداولتها الأجيال العربية جيلًا بعد جيل». كانت أيام «يا ست» ثومة!