الأحد 30 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
بهاء فى مكتبة  توفيق الحكيم!

بهاء فى مكتبة توفيق الحكيم!

كان الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين رئيسًا لتحرير مجلة صباح الخير عندما قرر أن يقوم بزيارة صحفية لمكتبات الأساتذة الكبار ويتجول فيها ليقدم لزملائه وقرائه ولنفسه صورة من الجهد الذى صنعهم «والذين صنعنا من بعدهم»، وكانت البداية مكتبة طه حسين ثم تلاها بزيارة مكتبة توفيق الحكيم والتى وصفها بأنها مكتبة فنان!



وعلى صفحات صباح الخير «3 إبريل 1958» وصف ممتع ورائع ودرس مهم فى فن الكتابة الصحفية وكتب يقول:

هذه المكتبة ليست مكتبة أديب باحث إنها مكتبة فنان! مكتبة لا تدل على أن صاحبها يهمه الاحتفاظ بها لنفسه أو لغيره فأكثر الكتب فيها غير مجلدة ولا مرتبة.. والمنظر العام للمكتبة أشبه بالمائدة التى فرغ الشخص من التهام طعامها وتركها دون أن يرفع الأطباق عنها!

وسألت توفيق الحكيم عن السبب فى ذلك فقال: أنا لا أحاول الاحتفاظ بمكتبة مستوفاة مرتبة لأن هذا لا تتطلبه طبيعة عملى!

إنه ينتقل بين مختلف ألوان المعرفة ليحصل منها على خلاصتها ويكون بها تفكيره الخاص، ولكنه ساعة الكتابة لا يعود إلى مراجع، ولا يعتمد على الكتب كمصادر لعمله الأدبى فالكتب التى يقرؤها تمده بغذاء يتحول بعملية الهضم إلى عصير ثقافى خاص بصاحبه، يساعد فى عملية الخلق الفنى الذى يظهر فى صورة قصص أو مسرحيات.. هذا هو دور الكتب فى حياته فهى غذاء يهضم وليست مراجع يعود إليها، ومن يطالبه بمكتبة منظمة واسعة كمن يطالب النحلة بنماذج من الأزهار التى امتصت رحيقها!

وقلت له تعليقًا على المنظر العام للمكتبة إنه فيما يبدو لا يكتب فى مكان ثابت معين وقال لى أن هذا صحيح، لقد تعود عدم التقيد بمكان معين للتأليف، لقد كتب «أهل الكهف» مثلا فى مقهى «بتى تريانون» المعرف الذى يقع فى شارع سعد زغلول بالإسكندرية، وكان فى ذلك الوقت موظفًا فى النيابة المختلطة بالإسكندرية، فكان يخرج من مكتبه إلى «البتى تريانون» ولربما ظل جالسًا يكتب هناك حتى يهبط الليل ويطفأ النور فى المقهى فيتركها، ويمشى باحثًا عن أى قهوة يتوفر فيها قوة الضوء وقلة الرواد ليستأنف الكتابة فيها!

ويسأله الأستاذ «بهاء»: والآن؟! فيجيب الحكيم: بعد أن أصبح شكلى معروفًا للناس بعض الشىء، أصبحت الكتابة فى المقاهى متعذرة وإلا تحولت إلى «فُرجة» للناس!

ويعود بهاء فيسأله: ولكن مهما كان شكل المكتبة الآن فأنا لا أتصور فنانًا عظيمًا لم يستوعب من الكتب ما يملأ مكتبة ضخمة؟!

ويرد توفيق الحكيم قائلًا: طبعا أن الفنان لا يخلق فنه من الهواء ولا يستطيع أن ينفصل عن منابع المعرفة، إن المؤلف الذى كتب عليه أن يظل صغيرًا هو الذى لا يقرأ إلا ما يتعلق بمهنته أو بمعرفته فقط!

أما الأدباء العظام فهم الذين يتكونون تكوينًا عميقًا ويقرأون كل شىء ويحيطون بكل معرفة من منابعها الأولى ويتابعون آخر تطورات العلم والفن والأدب والسياسة، إن الأديب العظيم هو مرآة لعقلية عصره كله، فإذا حصر نفسه فى فرع واحد من فروع المعرفة فهو يصبح صاحب حرفه وليس أديبا عظيمًا».

خذ فن القصة أو المسرحية مثلا هناك الكاتب المسرحى المحترف الذى يتقن صنعة المسرح ويعرف بالضبط متى يجعل الناس يصفقون ومتى يهبط الستار ولكنه لا يعد من ذلك كاتبًا عظيمًا، فهم ليسوا شكسبير ولا «ابسن»! ونفس الشىء بالنسبة للقصة ففى أوروبا وأمريكا يوجد مئات من كُتاب القصص الصحفية والأقلام السينمائية يعرفون كيف يصنعون الحبكة الممتازة واللحظات المثيرة والتشويق المستمر ولكن لهؤلاء الكتاب حدودا فكان عملهم فى نطاق ضيق جدًا هو إتقان الحرفة فحسب دون أن يكونوا محيطين بخلاصة الثقافة والمعرفة الفكر فى عصرهم!

إن إتقان حرفة الكتابة أمر مهم ولكنه ليس كافيًا، إن الحرفة هى الجهاز الذي «ينفذ»به الفنان الموضوع الذى يريده، ولكن هذا الجهاز لا يعمل وهو فارغ ولكن لا بد أن يمتلئ بمادة عميقة و خبرة!» ولزيارة مكتبة الحكيم بقية!