
رشاد كامل
صلاح حافظ واكتشاف نجيب محفوظ!
«كأننا اكتشفنا نجيب محفوظ»!
رايات.. وزينات وتعاليق.. تزف إلى الناس بشرى اكتشاف أديب عظيم فى بلادنا، نقب عنه الأجانب واستخرجوه! وهذا الاكتشاف - الذى اسمه «نجيب محفوظ» عاش يكتب عشرين سنة قبل أن نأخذ علمًا بوجوده، وعاش يكتب ثلاثين سنة أخرى بعد أن أخذنا علمًا بوجوده، دون أن يكتشف أى ناقد فى مصر أنه عملاق».
هذه السطور الموجعة والمؤلمة كتبها الأستاذ الكبير «صلاح حافظ» مايسترو الصحافة عقب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى الأدب فى أكتوبر سنة 1988، وكان عنوان مقاله البديع «اكتشاف نجيب محفوظ» وقال فيه: لكن الخواجات اكتشفوا أنه عملاق، فصار عملاقًا لدينا، ولأول مرة تهتز الدولة المصرية لأديب، وتهتز الصحافة ويحتل أديب صفحاتها الأولى، وتنشط لجان ومؤسسات ومنظمات كى تكرمه!
وفى اعتقادى أن هناك أكثر من درس يجب أن نستوعبه بمناسبة هذه التجربة!
الدرس الأول هو إننا لا نزال «أسرى» عقدة الخواجة ، ولا نزال «عميانًا» عاجزين عن رؤية ما لدينا من كنوز، ما لم ينبهنا إليها الأجانب! والدليل على ذلك الضجة التى أحاطت بجائزة «نجيب محفوظ» لم يسبق أن صاحب أى عمل خلاق وعملاق لطه حسين أو توفيق الحكيم أو يوسف إدريس أو جمال الغيطانى فالخواجات لم يعترفوا بهم بعد!!
والدرس الثانى هو أن الاعتراف العالمى بالأدب المصرى لم يفز به إلا أديب زاهد فيه، فنجيب محفوظ لم يسع فى حياته إلى الاعتراف بأدبه، ولم يحدث أن خاطب ناقدًا أو انتمى إلى صحيفة، أو انخرط فى لعبة العلاقات العامة، وهو أجهل الناس بكواليس عالم الصحافة والنشر وبفن تلميع النجوم الأدبية!
وهذا الدرس بالذات يستحق وقفة طويلة، فهذا رجل فاز بما لم يفز به أساتذة الدعاية والعلاقات العامة، وفاز وهو لم يبذل أى جهد إلا الجهد الفنى الخالص ولم يشغله شىء غير فنه ولم يغازل أحدًا غير قلمه، ولم ينتظر من فنه شيئا سوى إشباع خوالجه الأدبية!
ويمضى صلاح حافظ قائلا: وفوز رجل كهذا بجائزة نوبل يعيد إلينا الثقة فى أن القيم التى تصورنا أنها اندثرت فى عالم اليوم لم تندثر بعد! وأنا شخصيا أحد الذين تصوروا أن القيم التى تربينا عليها فى شبابنا قد ماتت من زمان، وأن العصر هو عصر الفهلوة والشطارة وبيع الأكاذيب، لا عصر الجد والصدق والإخلاص فى القول والعمل، فلما فاز «نجيب محفوظ» باعتراف العالم هزتنى المفاجأة وعادت لى ثقتى بالقيم التى تصورت أنها ماتت من زمان وفرحت إلى حد البكاء!
فها هى القيم التى تصورت أنها ماتت لم تمت بعد، وها هو الرجل الذى لم يلعب على الشناكل ولم يتأرجح على الأسلاك ولم يلبس الأقنعة، ولم يتفرغ لشىء غير فنه، يفرض نفسه على ضمير العالم الأدبى، ويرغمه على الاحتفاء به!
إن جائزة نجيب قد رفعت رءوسنا ورءوس العرب نعم، وهى قد نزلت دشًا باردًا على سفهاء الأمة الذين أصدروا ذات يوم قرارًا بمنع أعماله الأدبية من العرض فى أسواق القراءة عندهم!
والجائزة بالتأكيد أسعدت نجيب محفوظ وأسعدت آله وضمنت له ثروة تحميه فى شيخوخته.
لكن الأهم من ذلك كله هو أنها أعادت لجيلنا الثقة بأن القيم التى تربى عليها لا تزال حية، ولا تزال تفرض نفسها، وأنه لا يصح فى النهاية - برغم التدمير الأخلاقى اليومى الذى يمارسه تجار المخدرات والانفتاح - إلا الصحيح! إلا الحق والخير والجمال وعمالقة بسطاء مثل نجيب محفوظ!».
مقال صلاح حافظ درس مهم لكن من يستوعب الدرس!