الجمعة 28 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
صلاح عبدالصبور مصدوم فى فيروز!

صلاح عبدالصبور مصدوم فى فيروز!

ليلة فى بيت «فيروز» كان عنوان المقال الذى كتبه الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور فى روزاليوسف أكتوبر سنة 1960 وحمل أكثر من مفاجأة صارمة وكان معه فى تلك الليلة العبقرى صلاح جاهين ويروى قائلاً: صافحتنا فيروز وهى تتمتم وجلسنا وفيروز ليست جميلة، إن جسمها صغير نحيل مثل جسد نجاة الصغيرة ولكن وجه نجاة أجمل؛ عينا نجاة حلوتان هادئتان وعينا فيروز قاسيتان كأنهما محملقتان دائمًا، ولكن الفن وحده جمال ليس بعده جمال، وقلت لفيروز من قلبى: لقد حققت أمنية من أمنياتى حين زرتك ورأيتك يا بنت الجيل فى قلعتك بأعلى الجبل!



وبدا لى أن فيروز لم تفهم كلماتى؛ وتمتمت بكلمة شكر لم أتبينها ومن جانبى جاءنى صوت أحد الأخوين «رحبانى» وهو يرد على كلماتى بكلمات أكثر منها بلاغة!

وقلت لفيروز: لقد كنت طوال الطريق أترنم بقصيدة شوقى «وأغن أكحل من مها بكفيه» وأتساءل لماذا لا تغنيها أرق بنات «بكفيا».

وقالت فيروز: شوقى؟! ونظرت إلى أحد الأخوين رحبانى وكأنه تسأله من هو شوقى؟!

ومن جانبى جاءنى صوت أحد الأخوين وهو يقول: شوقى نعم.. لقد كان شوقى يعشق لبنان وأهلها وكان يزورها كل عام! ثم التفت إلى فيروز وقامت فيروز لتحتفى بالضيوف، وفاض علينا كرم الجبل، وقامت فيروز بدور «ست البيت» ولكنها ست البيت الشرقية التى تضع المائدة وترص الأطباق والشوك والسكاكين ولكنها لا تجلس إلى المائدة!

ثلاث ساعات لم تنطق فيها فيروز إلا ثلاث كلمات ونحن جميعًا- صلاح جاهين والأخوان رحبانى وأنا- ننشد الشعر بالدور ونتحدث عن الموسيقى والغناء ونتناقش فى موسيقى سيد درويش وعبدالوهاب وصوت وديع الصافى وصوت عبدالحليم وهى شاعرة الغناء لا تتكلم! ومن وقت لآخر كان صوت طبق يرفع من على المائدة أو سكين تسقط على الأرض يرن كأنه نوع من الموسيقى التصويرية لحديثنا المحلق الطائر ونلتفت ناحية الصوت فإذا هى فيروز!

وخرجنا إلى الطريق وصورة فيروز فى وجدانى شاحبة شاحبة جدًا، كان الأفضل لى ولخيالى أن أظل أحس بها نغمًا طائرًا وأن أتخيلها حديثًا عذبًا وظلاً رقيقًا ووجهًا ملائكيًا، ولكنى عدت أسأل نفسى لماذا لا نكتفى من الفنان بفنه فقط ونحاول أن نستمتع بشخصيته أيضًا؟! هل لا بد أن يكون القصاص الكبير الذى تفيض قصصه بالفهم للطبيعة البشرية والإدراك للأحاسيس والانفعالات.. هل لا بد لهذا الإنسان حين يتحدث أن يكون غنيًا بالفهم والإدراك مثله حين يكتب؟

إن الفنان الكبير يشق طريقه فى الحياة بفنه، فلماذا نطالبه أيضا بأن يشق طريقه فى المجتمع بخفة ظله وجمال وقع شخصيته على النفس؟

كنت عندئذ أفكر فى عبدالوهاب الذى لا يشبع الإنسان من حديثه وعبدالحليم الذى يعانق جميع من يعرفهم ويوهمهم بأنهم أعز أصدقائه وأم كلثوم التى كانت شخصيتها الطاغية سياج فنها المعجز، وكنت أفكر أيضًا فى انصاف الفنانين وأرباعهم أولئك المتسكعين على طريق الفن الذين تستهويك شخصياتهم وما فيهم من بريق ويعيشون حياة فنية حقيقية فيتحدثون ويناقشون وينقدون ويطلقون ذقونهم ويسهرون للصباح وكل شىء فيهم باهر للعين حتى ألوان ملابسهم ومع ذلك فليس فى عروقهم إلا بضع قطرات ضئيلة من الفن، إنها صورة مختلفة من الفنانين وانصافهم الذين تختلف شخصياتهم وكلهم يدفعونك لأن تلقى على نفسك هذا السؤال: أيهما أجمل الإنسان أم الفنان؟

كنت فى صف الفنان لا الإنسان لأننى أغتفر للفنان أن يكون عصبيًا أو متوترًا أو سيئ الخلق أو مرير الطعم ولكنى لا أغتفر له أن يكون بلا طعم.

وأخيرًا يقول صلاح عبدالصبور: وخفت أن أكون قد ظلمت فيروز، وملت على صلاح جاهين اسأله: ما رأيك فى فيروز؟

وقال صلاح: والله مش عارف!