الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

سيب نفسك

مونودراما إنسانية يغمرها الغناء والرقص والتمثيل

فى أجواء أقرب إلى عروض مسرح الشارع يبدأ العرض المسرحى «سيب نفسك» بطولة الفنانة فاطمة محمد على بقاعة يوسف إدريس، التى تقف ممسكة ب»مكنسة» وسنعلم فيما بعد أن هذه المقشة هى عدتها الخاصة لإنجاز مهام عملها بالشارع، تتغنى مع قدوم الجمهور «كنست ما كنست».. على أنغام وعزف موسيقى حيث تستهل فاطمة عرضها أمام قاعة يوسف إدريس تستقبل الجماهير بهذه الحالة المبهجة من الطرب مع حركة راقصة بعصا «المقشة» ثم تدخل للقاعة ليعيش معها الجمهور خلال 45 دقيقة حالة مسرحية استثنائية.



 يتناول العرض قصة عاملة نظافة تصعد إلى سطوح أعلى برج سكنى مرتفع جدا بعد أن يفزعها منظر رجل قرر أن يلقى بنفسه من أعلى البرج تهرع إليه وتحاول إقناعه بألا يلقى بنفسه من هذا المكان المرتفع حتى لا تتورط فى تنظيف الشارع بعد وفاته لأن هذا سوف يستغرق وقتا طويلا، وخلال الأسبوع الماضى اضطرت إلى تنظيف قطة بعد أن دهستها سيارة واستغرق الأمر وقت وبالتالى موت إنسان سيتطلب منها عملا شاقا، تحاول إقناعه بالعدول عن فكرة الانتحار لحين انتهاء ورديتها خاصة وهى تحتاج أن تنتهى مبكرا لتذهب إلى أحد المحال التجارية للحصول على «بلوزة» أعجبتها وتمنت لو امتلكتها قريبا.

عند ذكر كلمة «مونودراما» قد يتبادر إلى ذهنك أن العرض يحمل حالة تمثيلية تبدو معقدة الفكرة والموضوع لما تتطلبه عروض المونودراما من التركيز بشكل أكبر على استعراض إمكانيات ومهارات الممثل الذى يقف بمفرده أمام الجمهور ليقدم عملا فنيا مكتمل الأركان يستحضر شخصيات فى ذهنه أو يحاول اقناع الحاضرين أنه يتحدث إلى آخرين غيره بالقاعة وهذه الحالة تتطلب مستوى أعمق وأدق فى التركيز والمعايشة لحالة درامية مكتملة بجهد شخص واحد، إذا لم ينجح الممثل فى السيطرة على الحاضرين بجذب انتباههم وتوريطهم معه فى الحالة المسرحية من الوهلة الأولى وقع العرض فى فخ الملل والنفور.

فى «سيب نفسك».. ترك المخرج جمال ياقوت العنان للفنانة فاطمة محمد على كى تمتعنا بموهبتها متعددة الأوجه بتقديم حالة فنية شديدة الخصوصية، فالعرض لا يشبه عروض المونودراما فى جديتها وقتامتها، بينما هو عمل فنى يحمل رسالة إنسانية فى قالب مسرحى بسيط مبهج، إنسانة بسيطة تلقى من هموم الحياة المزيد الذى يجعلها تقدم على فكرة الانتحار منذ وقت مضى بعد أن فقدت أهلها فى الزلزال واضطرت أن تنزل للعمل لكسب قوت يومها، أصبحت عاملة نظافة تكنس الشوارع من قذارتها لكنها لم تستسلم لذلك، تخبر هذا الرجل الذى قرر انهاء حياته بأنها تحب القراءة واللعب والرقص، تروى له قصة، تحاول إقناعه بشتى الطرق بعد أن تحكى له مأساة حياتها وهمومها وأن أقصى أحلامها الحصول على بلوزة ذات ألوان زاهية أعجبتها تدعوه أن يترك نفسه للحياة ويحياها بحلوها ومرها لا شيء يستحق العدم طالما مازلنا أحياء.

على لسان تلك المرأة البسيطة التى بالطبع تحمل هموما أعقد من هذا المقبل على فكرة الانتحار.. هنا يعرى المؤلف المجتمع بتناقضاته التى تدعو للأسف والسخرية، بين الفارق الكبير فى هموم طبقات المجتمع المتباينة فكريا وماديا وإجتماعيا ورغم ذلك قد تجد الرضا والتفاؤل لدى المنتمين للطبقات الأقسى فى أوضاعها المادية والاجتماعية، هذه المرأة تستطيع أن تسعد بأقل الأشياء بينما من أقدم على الانتحار ربما لم يدرك الكثير مما لديه من نعم وبسبب أزمة عابرة فى حياته جعلته يكفر بكل شيء حوله بين يديه ويقرر انهاء حياته فجأة لمجرد الفشل فى أمر ما.

رسالة شديدة الدقة والعمق فى النظر وقراءة قلب المجتمع بتشريح طبقاته على اختلاف خلفياتها وانتماءاتها الثقافية والإجتماعية فهذه المرأة رغم بساطتها وقلة حيلتها تحمل فلسفتها الخاصة فى النظر للحياة والرضا بها، قدمت فاطمة محمد على هذه الرسالة الإنسانية المفعمة بالمشاعر والأحاسيس بروح منطلقة بين جدران قاعة «يوسف إدريس» بمسرح السلام لعبت بالعرائس اتقنت فنون التحريك باليد وتغيير طبقات صوتها كأنها لاعبة عرائس قديمة وذلك أثناء حكى الحدوتة ثم اللعب بالعروسة البشرية التى لعبت بها وتحركت معها وكأنها كائن حى آخر يلعب أمامها، مهارات متعددة استعرضاتها بطلة العرض بجانب اتقانها وقدرتها على الرقص والغناء فى أكثر من موضع، أمتعت الجمهور بخفة روحها ورشاقتها ووعيها بأبعاد تلك الشخصية الغنية التى استطاعت أن تتنقل بين حالاتها النفسية فى أوضاع متعددة بين الحزن والبهجة والأسى على ماضيها واليأس والتفاؤل والرضا بالرقص الهندى والنوبى والصعيدى والإسبانى، ثم الغناء والتمثيل لاستعراض تقلبات هذه المرأة المزاجية فى رواية حالها حتى بعد أن ضجرت من نصحه تركته قائلة «ارمى نفسك انت حر..».

لم يكن الجمهور لينسجم مع هذه الحالة المسرحية الخاصة بهذا العمل الفنى الاستثنائى دون أن يضعه مهندس الديكور أحمد أمين فى عالم هذه السيدة، بوعى كبير صمم أمين ديكور هذه القاعة الصغيرة التى تحولت بالفعل إلى غرفة فوق سطوح مبنى مرتفع بدءا من اهتمامه بتفاصيل السور ونهاية بالعشش الصغيرة التى وضعت فى جوانب القاعة وأطباق الدش الهوائى الصدئة والأحواض القديمة والطوب، بدا المكان مثل سطح مبنى بالفعل يتخلص فيه السكان من بعض مخلفاتهم عندما تدخل القاعة سوف تستحضر على الفور حالة جلوسك بين غرفة بالية فوق سطح مبنى بعيد، وبالتالى نجح مهندس الديكور فى وضع البطلة والجمهور بحالة هذا المكان المرتفع مع إضاءة المبدع إبراهيم الفرن التى تناقلت بين أحوال هذه المرأة الصاخبة أحيانا والدافئة ثم المعذبة أحيانا أخرى، «سيب نفسك» عمل مسرحى اتحدت عناصره فى وحدة واحدة واكتملت أركانه بالكتابة والتمثيل والإخراج مع الصورة البصرية والعزف الموسيقى الحى للملحن حاتم عزت الذى امتع الحاضرين بعزفه وألحانه منذ بدء العرض مع غناء أشعار محمد مخمير وتصميم استعراضات الرقصات الهندى والنوبى والأسبانى والصعيدى للفنان مناضل عنتر، «سيب نفسك» عن نص إسبانى للمؤلف مارك ايجيا، ترجمة الدكتورة نبيلة حسن دراماتورج وإخراج الدكتور جمال ياقوت، وتصميم أزياء نهاد السيد.