الإثنين 29 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع

عكار

الأعمال للفنان: أحمد مجدى



يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة أو خواطر «على ألا تتعدى 550 كلمة» مرفقا بها صورة شخصية على الإيميل التالى:

[email protected]

 

عكار 

 

قصة قصيرة

 

كتبها ــ كرم الصباغ

 

 كانوا ثلاثة، فى أردية سوداء، يحمل كل منهم صندوقا خشبيا صغيرا، يتدلى منه قفل صدئ. يقبلون، تنهب خطواتهم المتعجلة الرمل، يصلون إلى غدير راكد، تحاصره اليابسة من جميع الجهات، يقفون على إحدى حوافه. يتلفت أوسطهم يمنة ويسرة، ويحدق فى صاحبيه بنظرات حادة، تقدح شررا. يطرح صندوقه أرضا، ويرفع يديه، ويقربهما، فجأة من وجهه المتشنج، وينفخ نفخة طويلة، أسمع لها هريرا، وسرعان ما تندفع من فيه ريح عنيفة، تعصف بصفحة الغدير الساكنة، فتدب فيها الحركة، وتتحول مياهها الراكدة إلى أمواج متلاطمة يضرب بعضها بعضا، ومن بين ثناياها يتصاعد بخار خفيف، سرعان ما يتحول إلى ضباب كثيف، يحجب عن ناظرى الرؤية، ويخفى خلفه الرجال والغدير.

  أقترب بخطوات حذرة، أشق رتق الضباب، فأرى ثلاثتهم يشعلون الحطب، وأرى حلقة من نار تحاصر الماء الفائر، وأرى الغدير يتميز غيظا من حره. وفى غمرة الغليان، يدور الماء بسرعة دورات حلزونية، كأنه مروحة تلف ريشتها دونما توقف. 

  قدماى ملتصقتان باليابسة، وعيناى ترقبان المشهد بوجل ودهشة، وما بين غمضة عين وانتباهتها، أجد نفسى مغموسا فى الماء. أجدنى فى المركز تماما، تحاصرنى دوائر، أحكم بعضها حصار بعض، أجدنى أصارع الغرق. أنفاسى تتلاحق بلا حساب، و قدماى مكبلتان، تعتصرهما قبضات غليظة، تجذبهما إلى أسفل، فأقاوم الانزلاق، وأمد يدى إلى أعلى، فتستطيلان، خلافا للعادة، وتصلان بعد عنت إلى الحافة، وتتعلقان بأعشاب برية هشة، وعيدان محطمة. يرمقنى ثلاثتهم بنظرات ناقمة، و يخرجون من بين طيات أرديتهم مناشير من حديد، يقرضون بها أناملي، فأصرخ من فرط الألم، وأفلت الأعشاب، وارتد إلى دوامة الماء الملتهب مرة أخرى، واستقبل ما أفرغه الرجال فوق رأسى من محتويات، ضجت بها صناديقهم، التى نزعوا أقفالها للتو. 

مروحة الماء تدور، وأنا فى المركز أدور معها، ويداى المرتعشتان تلتقطان من وقت إلى آخر شيئا من الأشياء الطافية، التى ضج بها السطح المضطرب، ألتقط عرائس، ودمى، وقصاصات، دون عليها أسماء بلاد المنشأ، وتواريخ الصنع، وأمسك بصور ورسوم توضيحية، توضح طرق الاستخدام المثلى. وأقبض على زهرات، فقدت بتلاتها البلاستيكية جمالها، وتحول شكلها النباتى بين أصابعى الواهنة إلى مجرد كرات منبعجة مشوهة. 

  الدوامة تدور، والماء يزداد غليانا، وأوصال الدمى الطافية تنصهر شيئا، فشيئا، حتى تتحول إلى مجرد شوائب وعكار، يمتزج فى النهاية بزبد الموج، وفقاقيع السطح، ورقاع من جلد، علقت بكتل صغيرة من لحم مهترئ. 

أنتبه من نومى مذعورا، وما إن أتيقن من أن النوم قد ذهب عنى إلى حين، حتى أبدأ فى تحسس جسدي، فتمضى أناملى فى طريقها، لا يعترضها حائل أو كساء. ها هى تلامس عظامى العارية مباشرة، بعد أن سقط عنها ما كساها من قطن وقماش، ومطاط، طالما تباهى صانعه بأنه يشبه إلى حد بعيد جلود البشر.