الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
مصر بين جمهوريتى التحرير والتطهير

مصر بين جمهوريتى التحرير والتطهير

كانت الأحداث تزداد اشتعالًا على مختلف الجبهات، الأحزاب تتصارع، والجيش يعانى آثار هزيمة 1948، والاحتلال يصعد إجراءاته القمعية فى مدن القناة، ومجلس الشيوخ يناقش استجوابات نارية، فيما كان الشعب يتابع عن كثب، داخل الجيش كانت هناك مجموعة من الضباط الأحرار ينظمون صفوفهم، فى انتظار اللحظة المناسبة للتحرك.



 

 

«أريد أن أستجوب حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس الحكومة فى تصرفات بدت من الحكومة كان لها أثرها فى استقالة الرئيس السابق لديوان المحاسبة». 

 

 

بهذه الكلمات المختصرة البسيطة، بدأ مصطفى مرعى عضو مجلس الشيوخ أخطر استجوابات العهد الملكي، مايو 1950، وهو الاستجواب الذى بدأ بالاستفسار عن سر استقالة الدكتور محمد بهى الدين بركات رئيس ديوان المحاسبة - الجهاز المركزى للمحاسبات حاليًا - فى 20 سبتمبر 1949.

 

 

بدأ الاستجواب حول حصول كريم ثابت السكرتير الصحفى للملك فاروق على شيك بخمسة آلاف جنيه، وهو مبلغ كبير فى ذلك الوقت، من أموال التبرعات لإنشاء مستشفى المواساة بالإسكندرية تحت بند دعاية وإعلانات.

 

 

وكان رئيس ديوان المحاسبة، ذكر فى استقالته أن ظروفا خاصة تجعل من العسير عليه الاستمرار فى رئاسة الديوان، وجاء الاستجواب بحثًا عن الأسباب الحقيقية، خاصة أنه رد على سؤال صحفى بأنها ليست أسبابا شخصية، وكان على الحكومة تيسير عمله وإزالة عقباته ليمارس رقابته القانونية.

 

 

ولم يكن رئيس ديوان المحاسبة حينها شخصية عادية، فهو نجل فتح الله بركات ابن أخت الزعيم سعد زغلول، والذى نُفى معه إلى جزيرة سيشل إبان ثورة 1919 ، ووزير المعارف فى حكومتى 1930، 1937.

 

 

واللافت أن الاستجواب تطور من الرقابة على أموال التبرعات لبناء المستشفى، إلى ما سمى حينها بالأسلحة الفاسدة، فقد تناول قضية «دودى أبورجيلة»، سبق اتهامه وإدانته فى أحكام جنائية قبل أن يكون وسيطًا فى صفقات شراء ذخيرة للجيش حينها من إيطاليا وبريطانيا، لإمداد القوات فى حرب 1948.

 

 

تولى فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية بحكومة الوفد التى عادت للحكم الرد على الاستجواب، وكان الوفد أعاد ترميم علاقاته بالقصر، فجاء رد الحكومة أن حملة الدعاية الصحفية التى قام بها كريم ثابت حققت 60 ألف جنيه تبرعات، منتقلًا إلى الرد على مدى مسئولية الحكومة عن استيراد ذخيرة غير مطابقة للمواصفات وبضعف ثمنها الفعلي، بأن حكومة الوفد غير مسئولة كونها لم تكن فى الحكم وقت إبرام الصفقات، بل المسئولية تقع على حكومة سابقة كان مقدم الاستجواب وزيرًا فيها.

 

 

وانتهى الاستجواب بعد جلسات عدة فى البرلمان إلى الانتقال إلى جدول الأعمال، لكنه لم ينته فى نقاشات الرأى العام ولا داخل اجتماعات الضباط الأحرار، ومدى أثر الفساد فى دائرة المقربين من القصر على الجيش واستقلاله الوطنى.

 

 

تلك المعركة عكست الصراع المحتدم بين الأحزاب، وتحولها من الوقوف فى صفوف الشعب إلى الدفاع عن القصر وفق حسابات التوازنات السياسية.

 

 

وفى الثامن من أكتوبر 1951، وقف مصطفى باشا النحاس فى مجلس النواب ليلقى  بيانا تاريخيا، اختتمه بعبارة خالدة: «من أجل مصر وقعت معاهدة ١٩٣٦، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها». 

 

 

كان ذلك تحولا سياسيا كبيرا، من منهج التفاوض مع المحتل إلى المقاومة المسلحة، فأصبح العمل فى معسكرات الاحتلال البريطانى خيانة، فانسحب آلاف المصريين من مدن القناة.

 

 

بينما كانت الشرطة المصرية الباسلة تقف إلى جوار المقاومة الشعبية للاحتلال، تدعمها وتشد من أزرها، حتى جاءت اللحظة الحاسمة فى 25 يناير 1952، رفضت الشرطة المصرية إخلاء وتسليم مبنى محافظة الإسماعيلية.

 

 

أراد الاحتلال السيطرة الكاملة على مدن القناة، وإخلاءها من كل مظاهر السيادة المصرية، لكن الأبطال رفضوا وقاوموا أعتى جيوش العالم فى ذلك الوقت، قاتلوا حتى آخر رصاصة.

 

 

قدم 50 شهيدًا مصريًا أرواحهم فداءً للوطن، و80 جريحًا روت دماؤهم وأجزاء من جسدهم أرض الإسماعيلية الطاهرة، دفاعًا عن كرامة الوطن، وهو اليوم الذى اشتعل فيه الغضب الوطني، وتزايد الإصرار على القضاء على الاحتلال.

 

 

وهو ذاته اليوم الذى بات عيدًا للشرطة المصرية ذكرى الفداء وتلاحم الشعب مع مؤسساته الوطنية، الشرطة فى ذلك اليوم التاريخي، والجيش فى 23 يوليو من العام ذاته.

 

 

مع اشتعال نيران الغضب الشعبي، وتنامى الإصرار على مواصلة المعارك من أجل الاستقلال التام، لم يكن الملايين من الشعب يدركون السبيل إلى تحقيق ذلك الهدف الوطنى.

 

 

«إن أحدًا لم يكن يتوقع شيئًا عندما نام ليلته فى نهاية يوم 22 يوليو عام 1952، فلما أصبح الصباح كان الناس فى شبه ذهول، فقد توالت الأحداث من الفجر على صورة لم يألفها الشعب ، ولا كانت لتستطيع أن تطوف بخياله، بعد أن تاهت منه أحلامه وآماله فى ظلمة الأيام وسواد الليالى طيلة أشهر ستة ثقيلة مرت».. بهذه الفقرة وصف الرئيس الراحل محمد أنور السادات ليلة ثورة 23 يوليو مستهلًا كتابه: أسرار الثورة المصرية.

 

 

يقول السادات: “نشأة الثورة والتمهيد لها لم يستمد من حادث من الأحداث، رغم أثرها جميعًا، بل كانت فى كل مراحلها تفاعلًا طبيعيًا قويًا بين ضمير جيش مصر، وضمير شعب مصر.

 

 

نشأت فى منقباد فى ليلة باردة من شتاء عام 1938، حيث تزاد الروابط بين الأصدقاء والنقاشات بين ضباط وطنيين، يؤلمهم سيطرة الإنجليز على الجيش وانصياع قادة مصريين إلى تعليماتهم فى نظام صارم، يحكى السادات عن جمال عبدالناصر ذلك الشاب الذى التفّ حوله الضباط الأحرار.

 

 

نجح الضباط الأحرار فى الإطاحة بالنظام الملكي، وإعلان الجمهورية الأولى، محددين أهدافها، فى القضاء على الاستعمار وأعوانه، والقضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال، وإقامة جيش وطنى قوي، وإقامة عدالة اجتماعية وحياة ديمقراطية سليمة.

 

 

التفّ الشعب حول حركة الضباط الأحرار مرحبًا بالرئيس الأول للجمهورية اللواء محمد نجيب، ومن خلفه الزعيم جمال عبدالناصر، خاض الشعب مع قياداته معارك ضارية لتحقيق أهداف الحركة التى تحولت بالتفاف الشعب حولها إلى ثورة محددة الأهداف الوطنية.

 

 

تنفس الشعب الصعداء، وقضت مصر على الاستعمار وتحررت لتلهم بدورها الدول العربية والقارة الإفريقية، لتتوالى حركات الاستقلال، بدعم مصرى لحركات التحرر.

 

 

ماذا تحقق من أهداف ثورة 23 يوليو؟ 

 

 

١- تحول الحكم من الملكى إلى الجمهورى الذى حكم فيه أبناء من الشعب.

 

 

٢- حصول مصر على الاستقلال التام ورحيل الاحتلال البريطانى.

 

 

٣- بناء جيش وطنى مصرى قوى يمثل سيف ودرع الوطن، فكان أول اختباراته فى مواجهة العدوان الثلاثى، وأخطر عثراته فى هزيمة 1967، وأروع بطولاته فى حرب استعادة الكرامة 1973.

 

 

٤- بناء مؤسسات وطنية سياسية وأمنية قادرة على حماية الأمن القومى للوطن.

 

 

٥- القضاء على الإقطاع الزراعى الذى كان يستعبد الفلاح المصرى الفقير، وتحقيق العدالة الاجتماعية بإصدار قانون الإصلاح الزراعى 9 سبتمبر 1952 الذى وضع حدا أقصى للملكية 200 فدان وتوزيع أراض على الفلاحين، وهو ما أحدث حراكا اجتماعيا فى ريف مصر.

 

 

٦- تحقيق نهضة تنموية من خلال التنمية الزراعية وتوليد الكهرباء بإنشاء السد العالى 1971.

 

 

٧- بناء قاعدة صناعية من الأسمدة إلى الحديد والصلب والغزل والنسيج وغيرها من الصناعات التى عززت الاقتصاد الوطنى.

 

 

٨- دعم حركات التحرر العربية والإفريقية، فعززت مصر جامعة الدول العربية التى نشأت على خلفية الصراع العربى الصهيوني، لبناء موقف عربى موحد.

 

 

٩- أسهمت مصر بقوة فى تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التى تحولت إلى الاتحاد الإفريقى بعد تحرر الغالية العظمى لدول القارة.

 

 

تحديات جمهورية «التحرير»

 

 

يمكن وصف الجمهورية الأولى بـ«جمهورية التحرير»، فقد كان هدفها الأعظم تحقيق الاستقلال وتحرير البلاد من الاحتلال البريطانى والنفوذ الأجنبي، وتحقق ذلك بجلاء قوات بريطانيا، ثم تأميم قناة السويس واستقلال تام للقرار الوطني، وبدا ذلك أيضًا فى معركة بناء السد العالى بعد رفض الغرب تمويل بنائه.

 

 

استقلال القرار الوطنى وبسط النفوذ على كامل الأرض لا يمكن أن يتحقق ويتم الحفاظ عليه بدون جيش وطنى قوى قادر على حماية حدود الوطن وسيادته، ومؤسسات قوية وطنية قادرة على حماية الأمن القومى.

 

 

وقد نجحت الجمهورية الأولى فى تحقيق ذلك.. جيش وطنى قوى، ومؤسسات سياسية ودبلوماسية وأمنية، قوية اتضحت قوتها فى مواجهة تحديات مصيرية.

فقد أسست جمهورية 23 يوليو جهاز المخابرات المصرية، وأولت أهمية لتنمية قدرات الشرطة التى كان لها دور بطولى فى مواجهة الاحتلال البريطانى ثم الحفاظ على الأمن.

 

 

تنامت قوة الجيش المصري، والتحام الشعب به، وانتصرت مصر بمختلف مؤسساتها، بدعم شعبها فى السادس من أكتوبر ١٩٧٣، ثم كان التحدى الأكبر فى حماية البلاد فى أعقاب ٢٥ يناير ٢٠١١.

 

 

تنامى قدرة الدولة الشاملة فى عهد الجمهورية الأولى فى عهودها المتعاقبة رغم كل التحديات التى واجهتها، حافظت على قوة الردع التى حالت دون تكرار أى عدوان على مصر.

 

 

أخطاء الجمهورية الأولى 

 

 

من أخطاء الجمهورية الأولى وضع الإصلاحات السياسية فى مرتبة متأخرة للإصلاحات، والأخطر هو السماح للتنظيمات الدينية المتطرفة بالعبث بالحياة السياسية، والتواجد بوجه مزدوج، ففى حين كانت الجمهورية الأولى فى صراع مصيرى مع تنظيم الإخوان الذى دعم الاحتلال البريطانى تأسيسه قبل أن يحمل عصاه ويرحل، واصطدم الرئيس عبد الناصر بأطماعهم فى الحكم، وهادنهم خليفته الرئيس السادات، وسمح لهم بهامش ممارسة سياسية ظنًا منه أنه يمكن من خلالهم إحداث توازن فى مواجهة الحركات الشيوعية.

 

 

فعلها الرئيس السادات بطل الحرب والسلام، وهو يعلم حقيقة ذلك التنظيم الذى تحدث عنه فى كتابه: أسرار الثورة المصرية قائلًا: «إن حسن البنا وحده كان الرجل الذى يعد العدة لحركة الإخوان ويرسم لهم سياساتهم ثم يحتفظ بها فى نفسه.. إن أقرب المقربين إليه لم يكن يعرف من خططه ولا من أهدافه شيئًا.. لقد كان حسن البنا فى ذلك الوقت المُبكر يجمع السلاح ويشتريه ويخزنه، ولم يطلع كبار الإخوان على شيء من ذلك، بل كان يستعين فى هذه العمليات بإخوان من الشبان، وقد كان منهم الجندى المتطوع الذى جاءنى به فى سلاح الإشارة أول مرة».

 

 

نعم، فكان الرئيس السادات التقى حسن البنا أكثر من مرة قبل الثورة، وخبر حقيقة نواياه فى الوصول للحكم.

 

 

جمهورية «التطهير»

 

 

أدرك شعب مصر عندما تعرضت البلاد إلى هزات سياسية فى أعقاب ثورة ٢٥ يناير 2011، أهمية قوة الجيش والمؤسسات المصرية، فقد انحاز الجيش للحراك الشعبي، وأسرع بحماية بنيان الدولة ليتولى المجلس العسكرى قيادة المرحلة الانتقالية.

 

 

وسرعان ما أعاد الشعب استدعاء قواته المسلحة فى 30 يونيو، فقد أدت أخطاء ازدواجية التعامل مع الإخوان فى عهد السادات والرئيس مبارك، إلى بناء قواعد مكنتهم فى ظل ضعف الأحزاب من الوثوب على الحكم لتظهر فاشيتهم.

 

 

خرج الشعب فى الثلاثين من يونيو 2013، لاستعادة هويته الوطنية، واسترداد أهداف ثورته، التى نادى بها من حرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية، فكشف التنظيم الإرهابى عن وجهه الحقيقى مهددًا بإراقة الدماء وقتل معارضيه.

 

 

ساند الجيش الذى أقام الجمهورية الأولى شعبه، فى تطهير البلاد من الإرهاب، وحمى إرادة شعبه لبدء بناء الجمهورية الجديدة» جمهورية التطهير».

 

 

نجح الشعب المصرى وجيشه بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مواجهة الإرهاب، وتعظيم القدرة الشاملة للدولة فى مواجهة تحديات غير مسبوقة على كل المحاور الاستراتيجية التى يواجهها الوطن والأزمات الدولية بانعكاساتها.

 

 

لذا، فإنه رغم ما تحقق من تنمية وتعمير وعدالة اجتماعية ومشروعات حياة كريمة، وهى بدايات لأهداف أشمل تحقق حياة أفضل للمواطن المصري، فإن أهم ما تحقق هو تطهير البلاد من الإرهاب واقتلاع جذور التنظيم السرى من الحياة المصرية السياسية.

 

 

ورغم ما يواصلونه من حروب بالوكالة عبر منصات إعلامية خارجية، ومعارك الشائعات وغيرها، فإن التطهير الذى بدأ بالقضاء على الإرهاب وحقق نجاحات تاريخية، يستوجب أن يستكمل بمواجهات فكرية وبناء حصون الوعي لاقتلاع نهائى للفكر المتطرف من مجتمعنا.

 

 

فمن جمهورية التحرير ٢٣ يوليو إلى جمهورية التطهير والتعمير ٣٠ يونيو يبقى الأمل معقودا على تلاحم شعب مصر مع جيشه ومؤسسات دولته فى مجابهة التحديات وتحقيق الإنجازات للارتقاء بمصر التى جاءت أولًا لتشرق شمس الحضارة، ويأتى من بعدها التاريخ والعالم.

 

 

حفظ الله مصر