كذب مزورو الآثار ولو صدقوا فى اللغة المصرية القديمة
تحقيق - علاء الدين ظاهر
حالة من الصدمة تنتاب من حين لآخر محبى الآثار والتاريخ عندما يقرأون عن أحد المتاحف العالمية وقد اكتشف أن من بين الآثار المعروضة فيه مزيفة وغير أصلية، أى أنه لم يكتشف خبراء هذا المتحف حقيقة التمثال أو الأثر من فرط براعة تقليده أو لنقل تزويره وتزييفه بدقة متناهية، حيث بات الأمر وراءه «مافيا» من المزيفين المحترفين الذين برعوا فى تزييف مختلف أنواع المقتنيات الأثرية والأعمال الفنية، واستعانوا بتقنيات حديثة وأساليب متطورة لإحداث مظاهر مصطنعة للتقادم على القطع المقلدة؛ حتى يصعب التفرقة بينها وبين مظاهر التقادم الطبيعى على القطع الأصلية، وأصبح من المتعذر التفرقة بين ما هو أصلى وما هو مزيف ما لم يخضع للفحص والتحليل والدراسة.
من هنا تأتى الحاجة الملحة إلى وجود خبراء متخصصين بعلم أصول وقواعد كشف تزوير الآثار والأعمال الفنية، ورغم ذلك تبقى أصالة الآثار وتفردها أحد العوامل القوية فى مواجهة التزييف، وهو ما ينطبق بقوة على الآثار المصرية التى تمتلك تفردا وتميزا بلا شبيه، وقيمتها التى لا تقدر بمال جعلتها مطمعا لكثير من المزورين والمزيفين، وفى سبيل ذلك تمتلك مصر خبرات كثيرة خاصة البشرية فى مجال مواجهة تزييف الآثار، وهو ما أكده الدكتور عبد الحميد الكفافى مدير عام التخطيط والمتابعة لترميم الآثار، والذى صدر له مؤخرًا كتاب علمى قيم بعنوان » مبادئ كشف التزييف والتزوير فى الآثار والمقتنيات الفنية» عن دار حلم الكاتب للطباعة والنشر والتوزيع، وأكد فيه أن كشف التزوير فى الآثار والمقتنيات الفنية عالم واسع ومجال دقيق، ويحتاج لمهارة كبيرة للتمييز ما بين القديم والحديث مهما كانت براعة من قام حديثًا بإنتاج القطع والأعمال الفنية الحديثة ومهما قام بعمل تقادم عليها.
سألنا الكفافى عن الكشف عن القطع المفترض أثريتها، وقال: يعتبر الكشف عن التزييف والتزوير فى الآثار والمقتنيات الفنية أمرا بالغ الصعوبة والتعقيد، حيث إنه من خلال أعمال الفحص للقطع والمواد المراد فحصها، وكذلك المعاينات التى قمت بها كثيرا، قد أوضحت لى أن الأمور ليست بالسهولة أن أقر رأيا فى هذه المسألة دون أن يكون هناك دراسات لكل حالة بمفردها، فكثير من الزملاء الأثريين يصدرون القرارات فى القطع المعروضة إليهم بمجرد النظر أو بالمعاينة الظاهرية، من غير أن يكون هناك دراسات على كل قطعة أو القيام بعمل تصوير أو استخدام لبعض الأجهزة فى الفحص أو عمل تحاليل أو مقارنات للقطع المعروضة عليهم.
وحيث إن المقلد للأعمال الفنية أو للقطع الأثرية قد استطاع أن يستخدم التكنولوجيا الحديثة فى تقليد أعماله، واستطاع كذلك أن يستخدم المواد والتكنولوجيا القديمة فى إنتاج أعماله الفنية، فاستطاع أن يقلد اللغة المصرية القديمة على التماثيل الحجرية بمختلف أنواعها، واستطاع أن يقلد المدارس الفنية للعصور المصرية القديمة فى جميع منتجاته الفنية، مما جعل علماء الآثار وخبراء الترميم فى حيرة من أمرهم، ولا بد من تطبيق ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﻨﯿﺎت واﻟﻄﺮق اﻟﻤﺼﻤﻤﺔ ﻟﻔﺤﺺ اﻟﻈﻮاهر واﻟسمات التى يتم رصدها وتوثيقها ودراستها ﻟاستكمال ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت أونظريات تتعلق بتقنيات فحص ودراسة العمل محل الشكوك، ولابد من التفرقة بين الاسلوب العلمى والأسلوب النظرى.
وتابع: يجدر بنا أن نفرّق بين كل من التقليد والاستنساخ، وبين التزوير والتزييف؛ فالتقليد أو الاستنساخ يعنيان محاكاة الأثر، أو خلق نموذج أو نماذج مشابهة للأثر الأصلي، أو القطعة الفنية، أو اللوحة الأصلية، ونقلها نقلًا يوفر حدًّا من التشابه بينهما، ويطلق على هذا العمل عملًا مستعارًا، أو مقلدًا، أو مستنسخًا، أو مصطنعًا، وقد يكون هذا العمل، الذى لا يقصد به الغش والخداع، أمرًا مشروعًا أو مقبولًا، بل قد تقتضيه الضرورة، كوسيلة من وسائل التوثيق والحفظ فى حالة فقدان الأثر، أو العمل الفنى الأصلي، أو حفاظًا عليه من السرقة والتشويه، وهذا ما تمارسه بعض المتاحف، وقد نجده فى بعض المواقع الأثرية، وكذلك فى حالة استخدامها كمستنسخات تعليمية لطلاب الفن وغيرهم من الدارسين، أو لفاقدى البصر، أو لأغراض تجارية، كأن تُباع ومعروف أنها غير أصيلة، جميع هذه الأعمال لا تدخل ضمن التزييف أو التزوير.
أما التزوير والتزييف فيعنى نسخًا للتحف الأثرية بغرض الغش والخداع، وإعطاء قيمة ثقافية وفنية ومادية لشيء غير أصيل، أى إيهام الغير بأن هذا العمل المزور هو الأثر الأصلى بنية الاحتيال والانتفاع من وراء ذلك بغير حق، وقد يعنى التزييف تغيير بعض معالم الأثر لغرض ما، كالتقليل من قيمته، أو لرفع قيمته، أو لتغيير حقائق تاريخية، أو غيرها، وتقليد الأعمال الفنية تقليد قديم قدم الحضارات القديمة؛ فقد كان ظاهرة شائعة فى أواخر العصور الفرعونية؛ ففى العصر المتأخر، خاصة الأسرة السادسة والعشرين (664 - 525 ق.م)، شاع تقليد أعمال الدولة القديمة (2780 - 2263 ق.م)، كما شاع فى عهد الرومان تقليد بعض الأعمال الفنية للإغريق.
وقد ظهر التزييف فى بعض العصور الفرعونية القديمة كما كان الحال فى طمس أسماء بعض الملوك من على أعمال فنية نحتية ومعمارية، ونقش اسم فرعون آخر كوسيلة من وسائل الانتحال أو اغتصاب حقوق الغير ونسبتها لغيرهم، وفى عهد الرومان كان بعض الفنانين الثانويين يصنعون الأثر، وينسبونه إلى أساتذة الفن القدامى، وذلك بأن يذيلوه بتواقيع مزورة لهؤلاء الأساتذة.
والحقيقة، إن عملية الكشف عن أصالة الأثر أو العمل الفنى عملية لا يمكن أن يقوم بها فرد أو خبير متخصص واحد، بل هو عمل جماعى تكاملي، يتم فى إطار تعاون مؤسسى بين جهات أكاديمية وبحثية كفريق واحد. ومن المفترض أن يتضمن هذا الفريق آثاريًّا متخصصًا، وإخصائى ترميم وصيانة، يكونان على دراية بطبيعة المواد الأثرية القديمة وخاماتها، وتقنيات صناعاتها، ومؤرخًا أو دارسًا للفن الذى ينتمى إليه الأثر أو العمل الفني، وكيميائيًّا ملمًّا بطبيعة وتركيب المواد الأثرية القديمة وتفاعلاتها، ومظاهر التغيرات على موادها، وفيزيائيًّا على دراية بكيفية فحص وتحليل الأثر فحصًا علميًّا؛ للتأكد من تركيبه الدقيق الداخلى ومظهره الخارجي، ورصد ما أصابهما من تغيرات وتحولات. وعادة ما يصاحب هذه العملية ويلازمها عملية تأريخ للأثر أو العمل الفني، وتحديد عمره الزمني، تلك التى تتطلب آلية غير متلفة له.
وعن الخطوات التى يمكن الاعتماد عليها فى التفرقة بين ما هو أصلى وما هو مزيف، قال الكفافي: تأتى فى أولها المعاينة البصرية، التى قد تغنى عن الحاجة إلى تحليل أو تقنية علمية؛ فالمعاينة البصرية المبدئية قد تزودنا بمعلومات عن نوعية الأثر، وحالته، والتغيرات التى طرأت عليه، وقد تساعد فى التعرف على تقنية صناعته، أو عيوب فى إنتاجه، ونوع الزخرفة، أو أماكن الوصل، وإذا كان هناك تذهيب أو تفضيض أو تطعيم أو تكفيت. وكذلك اللون وحالته، والسطح وطبيعته ومظهره. وتعد الخبرة الشخصية عاملًا مهمًّا فى المعاينة البصرية؛ فالعين الخبيرة المدربة قادرة على تمييز أخطاء الصناعة أو الزخرفة أو الرسم وأسلوبه، أو طريق استخدام الفرشاة، أو أصناف الألوان. والآثارى المتخصص من المفترض أن يكون ملمًّا بالتاريخ، وعلى دراية بالنقوش والفنون الأثرية للفترة التاريخية المطلوب الكشف عنها.
وقد يصاحب المعاينة البصرية الفحص الخواص الفيزيائية، ومنها اللون، والوزن، والصلادة، والملمس وغيرها.. فلكل مادة لون يميزها عن غيرها إلا أن هذا اللون يمكن تزييفه أو تغييره، كما يمكن أن يتم تغطيته بلون آخر؛ وبالتالى يمكن تغيير شكل القطع أو التحف المقلدة بغرض خداع الآخرين وإيهامهم بأثرية هذه القطع. ومن هنا ينبغى التأكد من اللون الأصلى للقطعة، وهل هو لون متعمق ومتأصل أم سطحي، كما يمكن خدش اللون أو أخذ عينة منه، واختبار المخدش الناتج، ومعرفة إن كان هو اللون الأصلى أم لا. وكذلك تفحص الوزن، خاصة فى حالة المعادن والأحجار؛ فبعض المعادن أو الأحجار تتميز بوزن مميز، فمثلًا معدن الرصاص، وحجر الجرانيت والبازلت، وغيرها من الأحجار، تتميز بوزنها العالي، بينما الأحجار الحديثة أو المصنعة عادة ما تكون أخف وزنًا من الأحجار القديمة.
وبخلاف اللون والوزن، هناك الملمس، والصلادة، والمخدش، والقابلية للاحتراق، وجميعها يمكن من خلالها التأكد من أصالة الأثر أو العمل الفني. ويمكن الاستعانة بعدسة مكبرة أو مجهر مكبر، أو إضاءة مباشرة فى المعاينة البصرية والفحص البصرى، ويلى هذه المعاينة وهذا الفحص دراسة السمات الفنية، والنقوش والكتابات إن وُجدت. فالمعلوم أن كل أثر أو عمل فنى ينتمى إلى مدرسة فنية معينة، لها سماتها المميزة، سواء فى ملامح الوجوه أو فى الزخارف والرسومات، ومعرفة مثل هذه الميزات، سوف تمكن من من التمييز بين ما هو أثرى وما هو غير أثرى.
كما أن دراسة الكتابات أو النقوش (النصوص) - إن وجدت - سوف تساعد إلى حد كبير فى تمييز الأثر الأصلى من المزيف؛ ذلك أن الاختلافات سوف تكون واضحة فى أسلوب الكتابة وحرفية النقوش ودقتها، وقد توجد بعض الأخطاء التى يسهل ملاحظتها وتمييزها، ويأتى بعد هذه المراحل مرحلة الفحص العلمى باستخدام أجهزة فيزيائية، لها القدرة على فحص السطح الخارجى للأثر أو العمل الفني، والوقوف على حالته، ومظهره، ومدى تقادمه، وعلامات هذا التقادم، ومنها المجهر البصرى والمجهر الإلكتروني، وكذلك أجهزة التصوير الإشعاعى الراديوجرافي، والتصوير بالأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية، والعديد من أجهزة الفحص الداخلى الأخرى؛ للوقوف على طبيعة مادة الأثر أو العمل الفني، ومدى ما فيها من تغيرات فى تركيبها الدقيق.
ثم التحليل العلمى للمادة الأثرية للتعرف على تركيبها الدقيق، باستخدام أجهزة التحليل الكيفي، أو الكمي، أو هما معًا، على أن تكون من نوعية غير متلفة أو غير ضارة للأثر أو العمل الفنى ويمكن من نتائجها الاستدلال على معلومات تغيرات المادة وتفاعلات التقادم، ومن هذه الأجهزة أجهزة الليزر، وتفلور الأشعة السينية، وحيود الأشعة السينية، والنيترونات النشطة، وغيرها من الأجهزة التى قد تحتاج إلى عينات صغيرة، أو لا تحتاج إلى عينات، وأخيرًا يأتى التاريخ كمرحلة أخيرة للتأكد من أصالة الأثر أو العمل الفني. ومن الطرق التى تستخدم للـتأريخ الكربون 14 وطريقة الوميض الحرارى المستخدم فى تأريخ الفخار.