أيمن عبد المجيد
كيف تحولت من ملتقى الحضارات إلى ساحة للصراعات الدولية
الدول الوطنية وأعمدتها الفِقَرية.. سوريا نموذجًا
«لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها.. لا يسهر الليل إلا من به ألم، لا تحرق النار إلا رجل واطيها.. لا تسلكن طريقا لست تعرفها بلا دليل فتغوى فى نواحيها».
استحضرت ذاكرتى، تلك الكلمات التي أنشدها فنان سورى عربى مُبدع، على ألحان العود، فى فقرة إبداعية شارك بها 17 من رموز الفن والموسيقى، من 13 دولة عربية وأجنبية.
المكان كان قلعة دمشق، والزمان نوفمبر 2009، بينما الحدث، افتتاح النسخة الثامنة من مهرجان طريق الحرير الدولى، الذي شاركت فيه بدعوة من الدكتور سعد الله أغا القلعة، وزير السياحة السورى آنذاك، وسط وفود إعلامية من 20 دولة من قارات العالم.
حاول الحفل محاكاة الحوار الفكرى الموسيقى، بين ثقافات وحضارات ينتمى إليها أفراد قوافل التجار القادمة والعابرة من الشرق إلى الغرب عبر طريق الحرير، فكانت حفلات كبار التجار فى قديم الزمان، وسيلة الترفيه فى أمسيات حلب ودمشق، خلال فترات إقامتهم.
امتزجت مقطوعات الغناء العربى والأجنبى، بتراثه ومقاماته وإيقاعاته وآلاته، بمشاركة فنانين من سوريا والعراق والأردن وتونس واليمن، وآخرين من تركيا والهند وإسبانيا والصين وفرنسا وإيران.
افتتح المهرجان بحوار حضارى لغته الإبداع، وتلاقح الحضارات، لنمضى عشرة أيام على خطى القوافل من دمشق إلى الرقة وحلب ومعلولة واللاذقية، وغيرها من المدن السورية.
كان سكان سوريا حينها نحو 22 مليون نسمة، وميزانيتها 754 مليار ليرة سورية، بما يعادل حينها 16.5 مليار دولار، للعام 2010، بزيادة عن العام 2009، بنسبة 10%.
كان العمران فى كل مكان، والخضرة والطبيعة الساحرة، وبشاشة الوجوه وترحابهم الراقى بمجرد سماع اللهجة المصرية.
قطعًا كانت هناك تحديات وأخطاء سياسية لنظام الأسد، بيّنها خطابه السياسى تجاه زعماء عرب، وتحالفه مع إيران، وتضييقه على الحريات، لكن فى النهاية كانت دولة وطنية عربية، ينعم مواطنوها بالأمن والسلام، لديها جيش وطني وحكومة لديها خططها لتعظيم الاستثمار والسياحة والتنمية.
كيف تحولت سوريا من ملتقى الحضارات إلى ساحة للصراعات الدولية، وما سر تطور هجمات الميليشيات الآن، وإلى أين تسير، وما الدروس المستفادة؟
للإجابة عن هذا السؤال المركب، لا يمكن تحليل المشهد الأخير فى سوريا، بمعزل عن الصراع العالمى، والمكانة الجيوسياسية، والأطماع الإقليمية، وأسلحة الحرب الهجين التي تتنامى أدواتها المتداخلة.
فما يحدث فى سوريا الآن من تنامى الصراع، وسقوط حلب فى قبضة الميليشيات المسلحة، وما يواجهه الجيش الوطني العربى السورى من تحديات ليس وليد اللحظة.
مخطط تدمير الدول من الداخل
تعرضت المنطقة العربية -لما تملكه من أهمية استراتيجية جيوسياسية- إلى مخطط كسر الأعمدة الفقرية لدول الطوق المحيطة بالاحتلال الوظيفى إسرائيل.
العمود الفقرى للدولة الوطنية هو جيشها، وكما أن الإنسان تنتصب قامته حين يحتفظ عموده الفقرى بقوته، حاملًا مكونات جسمه، كذلك الدولة الوطنية عمودها الفقرى جيشها، تنحنى عندما يصيبه الوهن، وتتناثر أشلاؤها إذا -لا قدر الله- انكسر.
وهذا ما أدركه الأعداء فسعوا إلى دراسة الحالة العربية، ما قبل 2011، شعوب تتكاثر، وأنظمة طال مكوثها فى مقاعدها، وتحديات سياسية، خلقت بيئة هشة يمكن إشعالها بنيران التحريض وإدارة محاولات الإصلاح والتغيير الانحراف بها إلى تخريب وتدمير الدول من الداخل.
وفى كل التجارب كانت أذرع إشعال النيران، من يسمون أنفسهم بالنشطاء، بينما الفاعل التدميرى تنظيم الإخوان، استثمارا لطموح التنظيم فى اعتلاء السلطة، وقدراته التنظيمية، وخلفياته التاريخية فى اللجوء إلى العنف والعمل السرى المسلح.
وكان للتعاطى مع هذا التحدى العامل الأهم فى تطورات الأحداث ومدى قدرة الأعداء على تحقيق أهدافهم.
١- النموذج التونسى:
كانت تونس بداية اشتعال شرارة محاولة إحراق دول المنطقة العربية، والنموذج التجريبى لمخطط التدمير من الداخل.
فاشتعلت المظاهرات فى تونس 17 ديسمبر 2010، وحد من آثارها فى تدمير الدولة، موقف جيشها فى حماية الوطن ومؤسساته، والتنحى السريع للرئيس الأسبق زين العابدين بن على، فوجد تنظيم الإخوان الفرصة سانحة للقفز على السلطة، وخاضت تجاربها.
٢- النموذج المصري:
فى 25 يناير اشتعلت المظاهرات لتتحول إلى ثورة عارمة، فكان التعاطى الفعال من الجيش المصري، بإعلاء هدف حماية الشعب ومؤسسات الدولة، على حماية الحاكم، وفى الوقت ذاته استجاب الحاكم وتنحى الرئيس محمد حسنى مبارك، ناقلًا السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتتولى مسؤولية إدارة شؤون البلاد فى الفترة الانتقالية.
التعاطى الفعال للقوات المسلحة الوطنية، والوعى العام لشعب مصر، حفظ الوطن من مخططات الانجراف إلى حرب أهلية استهدف الساعون للانحراف بالحراك الجماهيرى من الإصلاح والتغيير إلى التخريب والتدمير.
قفز الإخوان على السلطة، وفق دراسة الحالة التي اعتمد عليها الأعداء، لقدراتهم التنظيمية فى أول انتخابات رئاسية، نتيجتها كانت محل شكوك للفارق الضئيل بين المتنافسين، لكن الإدارة الحكيمة قفزت على محاولات خلق ذرائع إشعال الوطن لتدميره من الداخل.
لم يمر عام حتى استيقظ الشعب، وعاود تصحيح ثورته، فكان الجيش للمرة الثانية حاميًا للشعب وإرادته، والوطن بمقدراته، ونجت مصر بحفظ الله ووعى شعبها، ووطنية وقوة جيشها ومؤسساتها.
٣- النموذج اليمنى:
بعد يومين من اشتعال المظاهرات فى مصر، انتقلت العدوى إلى اليمن، فخرجت المظاهرات 27 يناير 2011، من جامعة العاصمة صنعاء، داعية إلى إسقاط حكم الرئيس الأسبق على عبدالله صالح.
ليسقط نظام على عبدالله صالح بعد صراع دام ١١ شهرًا، تحولت فيه البلاد إلى حرب أهلية.
ولا يزال الصراع المسلح مستمرًا، بعد أن اتخذت ميليشيا الحوثى منحى طائفيا بدعم إيرانى، فلم يشهد اليمن استقرارًا حتى اليوم.
٤- النموذج الليبى:
فى 17 فبراير 2011، انتقلت العدوى إلى ليبيا، بالمحركات والمبررات ذاتها، والأدوات، استغلال أخطاء نظام، وإشعال الحراك بمن يطلقون على أنفسهم النشطاء، ليتلقف الحراك تنظيم الإخوان ويشعلوه.
التعاطى السلبى من الرئيس الليبى معمر القذافى وقيادات نظامه السياسى والعسكرى، ساعدت الأعداء على تحقيق أهدافهم، فسرعان ما تحول الحراك الشعبى، إلى حرب أهلية.
ومع شعور حلف الناتو بإمكانية حسم القذافى الصراع المسلح لصالح نظامه، تدخل عسكريًا بضربات لإنهاك الجيش بل والقضاء على القذافى ذاته.
هذه التجربة اعتمدت على دراسة حالة تنوع المكون الشعبى الذي تغلب عليه القبلية والمساحة الشاسعة للدولة، وتباعد مناطق الثروات، لإدارة صراع السلطة ما بعد القذافى، لتحقيق مكتسبات هيمنة ونفوذ القوى الخارجية المحركة.
٥- النموذج السورى:
اندلعت مظاهرة محدودة فى دمشق، فى 17 نوفمبر 2011، بعد نحو 11 شهرًا من اندلاع أول شرارة فى تونس.
والمفارقة أنها كانت فى واقعة شبيهة، حيث نسب إلى شرطى الاعتداء غير اللائق على مواطن، فتجمع مواطنون رافعين هتاف: «حاميها حراميها»، ومع انحياز النظام للمواطن ومعاقبة الشرطى عاود مواطنون الهتاف «بالروح بالدم نفديك يا بشار».
دون استبعاد أن تكون المظاهرة الثانية موجهة من منتمين لحزب البعث الحاكم، فإن سوريا كانت الأقدر على تأخير تنفيذ المخطط على أراضيها، لقوة حزب البعث والقبضة الأمنية، وعوامل أخرى متشابكة.
اللافت أن محاولات الإشعال لجأت لخداع النظام فبدأ نشطاء الاعتصام فى 22 فبراير 2011، أمام سفارة ليبيا فى دمشق تأييدًا لما سموه الثورة الليبية، رافعين شعارات (يا حرية وينك وينك حكم معمر بينا وبينك.. خاين اللى بيقتل شعبه).
فيما كان أطفال يكتبون فى مدن سورية على حوائط مدارس «الشعب يريد إيقاظ النظام».
وما لبثت الأوضاع أن اشتعلت تدريجيًا، لتصل إلى صراع مسلح، بين الجيش والميليشيات المدعومة دوليًا، فى استنزاف لمقدرات الدولة وجيشها على مدار 13 عامًا.
ونخلص من تحليل النماذج إلى:
أ- على عكس الحالة اليمنية والليبية التي استخدم فيها السلاح فى الصراع، وانتهت بسقوط نظامى على عبدالله صالح والقذافى ومقتلهما وأفراد من أسرهما، فإن نظام بشار الأسد ظل باقيًا، وإن فقد السيطرة على مساحات شاسعة من الدولة.
بقاء نظام بشار يرجع إلى دعم دولى من الصين سياسيًا فى الأمم المتحدة، وروسيا وإيران عسكريًا بقواتها على الأرض، فضلًا عن صمود الجيش الوطني.
فيما تعاظمت قوة الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، نتيجة لتلقى الدعم الاستخباراتى والمالى والعسكرى من إسرائيل والأمريكان والأتراك كل وفق ما يراه محققًا لأهدافه من الميليشيات على الأرض.
فمعادلة بقاء وقوة المتصارعين تخضع لصراع القوى الدولية فى سوريا.
ويرجع ذلك إلى:
١- موقع سوريا الاستراتيجى، فهى نقطة وثوب من البحر المتوسط على اليابسة، واجهة آسيا.
٢- ممر طرق بين الشرق والغرب، مؤثر فى التجارة العالمية، ومعادلات النفوذ بين القوى الدولية المتصارعة عالميًا.
٣- أهم تلك الطرق «طريق الحرير»، وأهمية سوريا الاستراتيجية والاقتصادية كمحطة بالغة التأثير فى مشروع الحزام والطريق الصينى، فى محوره الذي يعبر من العراق وإيران وسوريا.
٤- فهذه المحاور لن تكون فقط ذات أهداف تجارية للصين وحلفائها روسيا وإيران وسوريا، بل تمتد إلى المكتسبات الأمنية والعسكرية، فى نقل القوات والإمداد واللوجيستيات فى الصراعات المحتملة.
٥- تركيا فى قلب المعادلة، لما تربطها من حدود مع سوريا، وما يتعلق ذلك بأبعاد أمنها القومى ومطامعها، ومصالحها عبر الطرق الدولية التي تمر بسوريا من تركيا للأردن وبلاد الشام مجتمعة.
٦- الكيان الصهيونى له مصالحه أيضًا، فى إضعاف سوريا وتدمير جيشها، وتحويلها إلى دويلات متصارعة مذهبيًا وطائفيًا، تكون عاجزة عن تحرير الجولان.
٧- والجولان المحتل رغم كونه يقارب ١٪ فقط من مساحة سوريا، إلا أن أهميته الاستراتيجية تمكن إسرائيل من مراقبة كل تحركات القوات السورية لارتفاع الهضبة، كما تخلق حماية وتفوقا عسكريا للاحتلال.
٨- بينما مصلحة أمريكا والغرب تكمن فى تعزيز قدرات الكيان الصهيونى، وإعاقة حلفاء الصين، وإحباط المحطات الرئيسية فى مشروع الحزام والطريق.
ب- لماذا تطورت الأحداث الآن فى سوريا وكيف؟
فى مارس 2020، توافقت روسيا وتركيا على وقف إطلاق النار، لإيقاف المواجهات العسكرية بين الميليشيات والجيش السورى شمال غرب سوريا.
لكن لم تتوقف عمليات الإعداد وبناء قدرات المسلحين، متنوعى الأسماء والتشكيلات أبرزها ميليشيات ما يسمى تحرير سوريا بقيادة أبو محمد الجولانى، التي تمكنت مؤخرًا من الاستيلاء على حلب قلب سوريا التجاري.
هذا التحرك التصعيدى لا يمكن أن يكون بمعزل عن المحركين الدوليين، لكن لماذا الآن؟
للبحث عن إجابة، يجب تحليل ثلاثة عوامل: الأول موقف الدول المحركة للصراع، والثانى تحركات بشار الأسد، والمبادرات السياسية الأخيرة ومآلاتها.
القوى المحركة: روسيا منهكة فى حربها مع أوروبا فى أوكرانيا، وإيران أذرعها فى المنطقة استنزفت فى صراع مع إسرائيل وتلقت ضربات فى سوريا، وعلى الجانب الآخر أمريكا أصبحت أكثر قوة مع إدارتها الجديدة، وتركيا لم تجد استجابة من محاولات تحقيق مكاسب سياسية مع النظام السورى الرافض لتقديم تنازلات.
وعلى جانب تحركات بشار الأسد فقد كسر عزلته، وقام بثلاث زيارات بينها زيارة إلى الصين وقّع على هامشها اتفاقيات تفعيل محور طريق الحرير فى إطار مشروع الحزام والطريق، وشارك فى القمة العربية بعد عودة مقعد سوريا بالجامعة.
كسر العزلة، مع تراجع قوة الدعم، توقيت مناسب للقوى الدولية الداعمة للميليشيات لتحريكها لتحقيق مكاسب على الأرض، تضعف أمل السلطة السورية فى السيطرة الكاملة، وتعزز من الضغوط السياسية على بشار لتقديم تنازلات.
تبقى النتيجة الأهم وهى موقف مصر والدروس المستفادة.
مصر متمسكة بدعم الدولة الوطنية العربية، واستعادة مؤسساتها وقوة جيشها، وفى القلب منها الدولة السورية، ترفض مصر المساس بسيادة سوريا ووحدة أراضيها، وتدعم استقلالها التام واستعادة قوة مؤسساتها، وحلول سياسية تعبر عن إرادة شعبها.
بينما الدرس المستفاد:
حافظوا بوعيكم على أوطانكم، قفوا خلف مؤسساتكم وجيشكم، عمود مصر الفقرى، الذي بفضل حفظ الله وقوته، ظلت وستظل آمنة مستقلة الإرادة منتصبة القامة مرفوعة الهامة.
يوم زرت دمشق لاحظت أبيات المنشد التي استهللت بها مقالى، فبحثت عن القصيدة كاملة فإذا ما أنشده آخر ثلاثة أبيات منها، وللمفارقة مطلعها:
«إنى وقفت بباب الدار أسألها عن الحبيب الذي قد كان لى فيها
فما وجدت بها طيفًا يكلمنى سوى نواح حمام فى أعاليها.
سألت: يا دار أين أحبابنا فهل رحلوا؟ ويا ترى أى أرضٍ خيموا فيها؟
قالت: قبيل العشاء شدوا رواحلهم وخلّفونى على الأطلال أبكيها»
هذه كانت بداية القصيدة، اختتمها بنصيحة: «لا تسلكن طريقا لست تعرفها بلا دليل فتغوى فى نواحيها».
السؤال لك عزيزى القارئ لتقدم أنت الإجابة.. تُرى هل كانت الشعوب المدمرة والمهجرة ستسلك طريق ما سموه الثورات 2011، لو اطّلعت على مآلات أوطانها؟!
حفظ الله مصر..