الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
المَعركة الدبلوماسية والقانونية لتحرير كامل التراب الوطنى

المَعركة الدبلوماسية والقانونية لتحرير كامل التراب الوطنى

بحروف من ذهب كتبَ المصريون تاريخًا مجيدًا فى السادس من أكتوبر 1973م، لكن لم يكن هذا النصر لجيش مصر الباسل وليدَ ذلك اليوم الخالد؛ فقد سبقته بطولات حرب الاستنزاف، وإعداد الجيش والدولة للمَعركة، ولم يتوقف أثره مع وقف إطلاق النار؛ فقد كان هذا النصر، بمَثابة القاعدة الصّلبة لمواصلة مَعارك مصر السياسية والدبلوماسية والقانونية فى ساحات القضاء الدولى لاسترداد كامل التراب الوطني، الذى توّج باستعادة طابا.



للحديث عن التحكيم الدولى لاستعادة طابا، وكيف صار، وتفاصيله، من المُهم معرفة كيفية نشأة هذا النزاع وخلفياته: فباختصار؛ تعرّضت قطعة غالية من مصر، وهى شبه جزيرة سيناء، للاحتلال الإسرائيلى يونيو 1967م، وظلت مُحتلة حتى 6 أكتوبر 1973م، ذلك اليومُ الذى شهد انتصارَ جيش مصر العظيم، وهو النصر الذى سَجّله التاريخ وتتدارسه الأكاديميات العسكرية بخبرائها، لما شهده من تضحية وفداء، وحِرَفية، واستخدام لآليات حديثة فى الحروب مَثلًا أعلى للحروب الدفاعية التحريرية.

وكان من الطبيعى أن يقوم جيشُ مصر بعمليات استنزاف للعدو؛ ليؤكدَ أنّ أرضَه لا يمكن أن تظل مُحتلة وأنّ جيشَه الذى صَمّم على التضحية، وأعاد بناء قواته المسلحة فى ستّ سنوات؛ لن يقبل أبدًا أن يترك شِبْرًا واحدًا من أرض الوطن غير مُحرَّر؛ خصوصًا بَعد أن استعاد ثقته بانتصار أكتوبر العظيم.

وقد كان من الطبيعى أن يطلب العدو التفاوضَ مع مصر لوقف إطلاق النار، وتطبيع علاقاته معها، فكانت المفاوضات منذ ١٩٧٤م حتى مفاوضات كامب ديفيد ١٩٧٨م؛ لإنهاء حالة الحرب بين البلدَين، والتى انتهت بإعلان مبادئ تحدّد أسُسَ التسوية بينهما، وتقضى بانسحاب إسرائيل من كامل الأراضى المصرية، وأن يتم اعترافُ مصر بها وإقامة علاقات دبلوماسية وغيرها من علاقات التعاون.

وقد تحوّل هذا الإعلان لاتفاقية سلام فى العام التالى (١٩٧٩م)، متضمنة تفاصيل تنفيذ إعلان المبادئ، وعلى وجه الخصوص تنظيم عمليات انسحاب القوات الإسرائيلية ومَراحل هذا الانسحاب.

وكان من المقرّر أن يكون ٢٥ أبريل ١٩٨٢م هو يوم إعلان انسحاب إسرائيل من كامل الأراضى التى احتلتها؛ لتعود القوات الإسرائيلية والمصرية إلى حدود ما كانت عليه قبل ٤ يونيو ١٩٦٧م، ولكن قَبْل هذا الميعاد ببِضعة أشهُر، ماطلت إسرائيل فى الانسحاب من بعض المَناطق المُحتلة، وفى مقدمتها طابا ومنطقة رأس النقب.

ومن المعلوم أن حدود مصر الشرقية، تبدأ من رفح شمالًا، على البحر الأبيض المتوسط، إلى طابا جنوبًا على خليج العقبة، فى خَط شبه مستقيم، يبلغ طوله ٢٤٤ كيلو مترًا مربعًا.

وكانت اللجنة المشتركة لمتابعة تنفيذ عمليات الانسحاب، تُعِدّ مَحضرًا عند الانسحاب من كل موقع يوقّع عليه كلٌ مِن ممثلى مصر وإسرائيل، إلاّ أنه نتيجة التعنت الإسرائيلي، زعمت بمواقع على غير الحقيقية لتسع علامات فى الشمال وأربع علامات فى الوسط وعلامة فى الجنوب.

وواقع الأمْر أنّ الخلافَ الأساسى كان على علامات الوسط (٨٥، ٨٦، ٨٧، ٨٨)، وعلامة الجنوب (٩١)، أمّا علامات الشمال التسع؛ فقد أضافتها إسرائيل لكى تزيد من حجم المُشكِلة، وتستخدمها فى التفاوض على المَواقع الحقيقية لعلامات الوسط وعلامة الجنوب.

جديرٌ بالذّكْر أنّ علامات الوسط المختلف عليها، تتعلق بمساحة تبلغ ٥٫٥ كيلو متر مربع، وأنّ الخلاف حول علامة الجنوب (طابا)، يتعلق بمساحة أرض تبلغ 1٫25 كيلو متر مربع، وبغض النظر عن حجم المساحة المُختلف عليها فى المنطقتين؛ فإنهما تتمتعان بقيمة استراتيچية واقتصادية وسياحية مهمة.

وإذا كانت إسرائيل قد أرادت أن تنتهز لهفة الرأى العام المصرى على إعلان استرداد سيناء، قد دفعها إلى محاولة اقتطاع بعض المناطق المصرية المهمة؛ فإن مصر رئيسًا وحكومة ومؤسّسات وشعبًا، رفضت التنازل عن أى شِبْر من أرضها، وبذلت كل الجهد لدفع إسرائيل للانسحاب من سيناء؛ وفقًا للنقاط الحدودية الحقيقية، مستندة فى ذلك التصميم إلى نصر أكتوبر العظيم الذى أذهل العالمَ وإسرائيل نفسها.

وعندما جاء يوم ٢٥ أبريل ١٩٨٢م موعد إتمام الانسحاب أعلن الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، أنّ مصر المُصمّمة على تحرير سيناء كاملة، قد استردت اليومَ الغالبية العظمَى من أرضها، إلاّ أنّ هناك بعضَ المَواقع الحدودية التى تريد إسرائيل سيطرتها عليها من دون وجه حق، فقد تم الاتفاق على استمرار التفاوض حول هذا الخلاف.

وكانت الرسالة للعالم أن مصر وهى حريصة على كل شِبْر من أراضيها، تحترم فى الوقت نفسه اتفاقية السلام المُبرَمَة مع إسرائيل عام ١٩٧٩م، وعلى ضرورة التمسُّك بالتسوية السلمية لأى منازعات حول تنفيذ أو تفسير هذه الاتفاقية، ولذا ستواصل التفاوضَ حتى تحصل على حقوقها كاملة.

إلاّ أنه أمامَ مماطلة إسرائيل وتمسُّكها بمَواقع الحدود غير الحقيقية، طلبنا اللجوءَ إلى التحكيم الدولى تنفيذًا لما تقرّره اتفاقية السلام، وكان من الضرورى أن توافق إسرائيل على اللجوء للتحكيم وفقًا للقواعد المُستقرة فى العلاقات الدولية، ومارست مصر كل الضغوط بما فيها التهديد بقطع العلاقات مع إسرائيل إذا لم تقبل الالتجاء إلى التحكيم، الأمْرُ الذى اضطرت إسرائيل للرضوخ له.

وبدأت مرحلة تفاوُض، حول إعداد مشارطة التحكيم التى تتضمّن اختيار خمسة أعضاء يشكلون هيئة التحكيم تفصل فى النزاع: (مصرى وهو الأستاذ الدكتور حامد سلطان، وإسرائيلية الأستاذة روث لابيدوت، وثلاثة محايدين من فرنسا وسويسرا والسويد)، وكذلك إجراءات التحكيم من مذكرات قانونية، ومرافعات شفهية، والاستماع لشهود الطرفين، ومعاينة هيئة التحكيم للنقاط الحدودية المُتنازع عليها.

وبدأ الاستعداد لمعركة التحكيم بنفس قوة وصلابة الإعداد لمعركة ١٩٧٣م العسكرية، ومعركة اتفاقية السلام السياسية ١٩٧٩م، فصَدرَ قرار رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة قومية للدفاع عن طابا، برئاسة وزير الخارجية الدكتور عصمت عبدالمجيد، وعضوية عدد من الخبراء فى مختلف التخصُّصات ذات الصلة بالنزاع، من (أساتذة قانون دولى وأساتذة جغرافيا وتاريخ وخبراء چيولوچيين وعسكريين، وعلماء فى الوثائق وغيرهم، ومكونة من ٢٤ عضوًا).

وعكفت اللجنة على إعداد الوثائق و الدفوع، والتى حصلت عليها اللجنة من العديد من الدول والمكتبات ودُور الوثائق العالمية.

ولا بُدَّ أن نذكر بكل الاعتزاز أنّ اللجنة القومية لطابا وفريق الدفاع المنبثق عنها، قد عملوا على مدَى عدة سنوات بروح الفريق وبأسلوب علمي، فى ظل تفرُّغ كامل لهذه القضية الوطنية، ومتابعة مستمرة من السيد رئيس الجمهورية، والقيادات السياسية والبرلمانية حتى كُللت كل هذه الجهود بعودة الحق لأصحابه بإعلان هيئة التحكيم يوم 29 سبتمبر 1988م، أنّ المَواقع الحدودية التى ذكرتها مصر لعلامات الوسط والجنوب، الخَمس المتنازع عليها، هى المواقع التى حددتها مصر، الأمْرُ الذى يعنى استرداد مصر لمنطقة رأس النقب بأكملها، واستردادها طابا بأكملها، وهو نصرٌ عظيمٌ مؤزرٌ.

أمّا فيما يتعلق بالعلامات التسع، وكان الخلاف حولها يتعلق بمساحات قليلة لا تتعدّى بضعة أمتار، فحكمت المَحكمة بصحة خَمسة مواقع وفقًا للرؤية المصرية، وأربعة وفقًا للرؤية الإسرائيلية، وقد صدرت الأحكام بشأن العلامات التسع بإجماع هيئة المَحكمة، بما فيها ممثلة إسرائيل، بينما أحكام الخمس علامات بالوسط والجنوب، فصدرت بأغلبية أربعة أعضاء، ضد صوت واحد هو ممثلة إسرائيل.

وبَعد صدور أحكام هيئة التحكيم، دعا رئيس المَحكمة فريقَيْ الدفاع لتناوُل فنجان شاي، مع هيئة المَحكمة، وفى هذا اللقاء سمعتُ بأذنيَّ المُستشار القانونى الإسرائيلى روزيل شابتاى يقول بأعلى صوته: «والله يا مصريين كنا عارفين إن طابا مصرية، ولكننا لم نكن ندرى قدرتكم الفائقة على إقناع هيئة التحكيم، بسيادتكم على طابا، ولو كنا نعلم بهذه القدرة لما قبلنا من الأساس عرض النزاع على التحكيم».

وهذه الشهادة الإسرائيلية التى تعترف بالقدرات المصرية على استرجاع الحقوق؛ تؤكد أنّ الانتصار فى المَعارك يستند إلى العِلْم وحِرَفية التفاوض، وأن الأمْرَ ليس مجرد أن تكون صاحب حق وإنما أن تكون قادرًا على الدفاع عنه، بالأسلوب العلمى وبما يُقنع الآخرين.

وحتى بَعد صدور هذا الحُكم؛ فقد ظلت إسرائيل تماطل لمُدة ستة أشهُر فى الخروج من رأس النقب وطابا، وقالوا: لقد بنينا فندقًا سياحيًا نريد تكلفة بنائه.. وكانوا قد أقاموا أربعة طوابق منه، قبل الموافقة على التحكيم، واستكملته إسرائيل خلال مرحلة التحكيم، وقلنا لهم: من يبنى على أرض ليست مِلْكه لا يحق له التعويض، ولن ندفع ثمَن الأجزاء التى تم بناؤها من بَعد قبول التحكيم، إلى أن تم الاتفاق على مَبلغ تعويض بسيط عن قيمة هذا الفندق.

وقامت إسرائيل فى مارس 1989م بالانسحاب الكامل من منطقتى رأس النقب وطابا، وكانت لحظة رفع عَلم مصري، على طابا لحظة انتصار عظيم وسعادة لكل مصرى وبكاء وعويل فى إسرائيل.

إنّ خوض معركة التحكيم لم يكن بالأمر السهل؛ بل كان معركة علمية قضائية قانونية، انتصرنا فيها استنادًا إلى الانتصار السياسى فى عامَيْ 1978و1979م، والجذور الأساسية، الانتصار العسكرى العظيم فى السادس من أكتوبر 1973م.