الأربعاء 18 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«أوبرا العتبة».. هيستريا الواقع فى سيمفونية شعبية صاخبة!

يأتى تميز الأعمال الفنية من قدرتها على صناعة الدهشة؛ تبدأ الدهشة فى “أوبرا العتبة” من اسم العرض المسرحي؛ جملة جمعت بين لفظين متناقضين ..فن “الأوبرا” وما يخلفه من أثر ذهنى فى العقل الجمعى بتركيبته الفنية المعقدة، ومن ثم تصنيفه كأحد الفنون الراقية لأصحاب الصفوة؛ ومنطقة العتبة الشعبية التى تحوى مجموعة هائلة متنوعة ومتفرقة من الباعة الجائلين والأفراد المتناثرين اللاهثين بين أطراف شوارعها بحثا عن شىء لم يدركوه بعد من سور الأزبكية إلى سوق الباعة المتكدسين فى مشهد عبثى غير متكرر.. وبالتالى يصاب المستمع لاسم العرض بدهشة مشمئزا ..فى محاولة لتصور من أى شكل يتكون محتوى هذين اللفظين اللذين اجتماعا معا فى لحظة فنية وزمنية فارقة!



لم يقتصر إبداع المخرج والمؤلف هانى عفيفى عند صناعة الدهشة من اسم العرض وحده؛ بينما ما تلا هذا الاسم من محتوى فنى شديد الجرأة فى عنصر صناعة الجذب الجماهيرى، خاصة هؤلاء الباعة الذين يعيشون فى واقع موازٍ وغربة عن المسارح المجاورة لهم على حافة المنطقة؛ قرر عفيفى أن يخرج لهم من بين جدران مسرح الطليعة إلى وسط الميدان؛ بينما هم يصرخون فى نداء لا يتوقف معلنين عن بضائعهم المتنوعة.. يفاجئهم شاب وفتاة هما روجينا صبحى ومحمود إيهاب بالغناء الأوبرالى مرددين بأصواتهما العذبة مقاطع من أوبرا كارمن على عتبة الميدان.. بنى عفيفى خشبة مسرح صغيرة على باب الطليعة.. فى جرأة وتطلع للخروج لهؤلاء وقياس ردود أفعالهم على هذا النوع من الفن شديد الخصوصية ..يقف المارة والبائعون فى الشارع منبهرين مستمعين للغناء الأوبرالى فى دهشة وربما سخرية وإعجاب ومتعة لا يملكون إخفاءها.. مشهد يجسد شدة الغربة والتناقض بين سوق عشوائية ومجمع مسارح غرق فى وحل البضائع المستهلكة!

 

 

 

 

يعتمد بناء فن الأوبرا على تعدد وتنوع الأصوات المشاركة فيه؛ فهو فن قائم بالأساس على التعددية فى استعراض الأصوات والتعددية بصناعة الألحان الموسيقية لا يعزف الأوركسترا السيمفونى لحنا واحدا، بل مجموعة متنوعة من الألحان التى تنسجم فى هارمونى بديع بأسلوب خاص وإدارة واعية بقيادة مايسترو حاذق ومحترف لديه خبرة ودراية بهذه التعددية التى يتمكن من إخراجها فى أبهى صورة للمستمعين؛ من فلسفة تعدد الألحان والأصوات بفن الأوبرا صاغ عفيفى مخرج ومؤلف العرض عمله المسرحي؛ الذى تحرر فيه من السرد الدرامى وأقامه على تعدد الأصوات أو التعددية المشهدية؛ لن تشاهد عملا بنى فى صيغة مسرحية تقليدية.. بداية ووسط ونهاية وبطل تتبع رحلة صعوده؛ بينما البطل هنا هو الواقع المصرى بكل أطيافه وتعدديته وتشوهه وتشوشه؛ من هذه الشوشرة المجتمعية الواقعية خرج “أوبرا العتبة” فى انسجام أو إن شئت الدقة فى هارمونى بديع بقيادة المايسترو مخرج ومؤلف العمل الذى سعى بمهارة ودقة أن يخرج كل هذا التناقض العنيف فى وحدة واحدة تتنقل معه بين أفراد ومشاهد العرض مثلما تتنقل نغمات الألحان بالتوزيعات الموسيقية عبر آلات مختلفة غير مترابطة بينما تلتحم معا فى عذوبة لتروى علينا فكرة واحدة حالة الهيستريا التى أصابت المجتمع المصرى.

 كما يشكل البائعون فى الخارج جزءا لا يتجزأ من المشهد المسرحى بدءا من دخولك حرم المسرح القومى ومرورا بمسرحى الطليعة والعرائس ..كذلك احتل هؤلاء الباعة المشهد بشكل كبير داخل العمل الفنى؛ تبدأ أحداث العرض بعد الاستماع إلى مقطوعة الأوبرا بالخارج.. يقتحم عليك أبطاله صالة المسرح وهم مجموعة من الباعة يرددون فى نداء متكرر أسعار منتجاتهم المميزة وعليك الاستجابة والشراء؛ ثم نشاهد قطع ديكور يبدو عليها الهدم وعدم الاكتمال؛ عبارة عن مجموعة من السقالات الخشبية تفصل الجيران عن بعضهم البعض وكأنه مبنى آل أن يسقط على رؤوس أصحابه؛ صمم مهندس الديكور عمر غايات بلوكات خشبية لبناء تشوهت واجهته ولم تكتمل معالمه.. كما تشوه الواقع الذى يحتويه أو ربما حمل مساحة من الفراغات الكبرى انعكاسا لشدة الغربة التى تفصل أصحاب تلك الأماكن عن بعضهم البعض.

 

 

 

 

بين هذا الديكور الذى بدا آيلا للسقوط يصرخ الباعة ومطربو المهرجانات والأفراح الشعبية.. ثم مشاهد متفرقة لمحتوى فارغ من مواقع التواصل الاجتماعى “التيك توك” وتعطل عمل شركات الاتصالات فى حل مشاكل عملائها؛ وبرامج إذاعية تفرز محتوى فنيا مشوها ومنظومة تعليمية منهارة؛ ثم صورة مصغرة للمجتمع المصرى فى عربة الميكروباص لمواجهة أزمة ارتفاع الأسعار كيف استغل كل مواطن فى عمله هذه الأزمة للاستفادة وتحقيق مصالح شخصية بدءا من السائق ونهاية بالركاب جميعا؛ صورة لوضع المرأة بمترو الأنفاق والمواصلات العامة وحجم المضايقات التى تواجهها من تحرش وتدخل فى شئونها؛ ثم كفتى الميزان بالعرض اللتين وضعهما المخرج ومصمم الديكور داخل هذا المبنى المتهدم فى غربة وعزلة شديدة عن الشارع وعن بعضهم البعض؛ رجل مثقف يعيش فى عالمه الخاص لديه أزمة ومعركة ذاتية لا تخص أحدا ولا نعلم إلى من يتحدث وماذا يقول.. يروى أشياء مبهمة غير مترابطة من مقالات علمية يناقش وحده مصطلحات وقضايا كونية كبرى.. يردد مقاطع من مسرحية أوديب وقصيدة لمحمود درويش ثم يرسم لوحة ويعزف على الكمان يعيش فى عالم آخر بينه وبين الواقع فجوة متسعة؛ تقابله على الطرف الآخر امرأة جالسة فى غرفتها لا يشغلها شىء سوى الحرص على تخزين السلع الغذائية حتى تتراكم حولها خوفا من ارتفاع أسعارها إلى أن تلاشى حضورها بين مجموعة ضخمة من الكراتين!

نجحت الفنانة دعاء حمزة فى تجسيد الصورة النمطية للمرأة المصرية ببساطة وخفة جسدت دعاء دور الأم والزوجة المزعجة الممثلة لمجتمع استهلاكى بالدرجة الأولى لا يهمها شىء سوى جمع أكبر قدر من المعلبات الغذائية والدواء؛ امرأة تفنى حياتها خلف الجدران فى دائرة لا تنقطع من الثرثرة بهاتفها المحمول والإسراف فى تخزين السلع حتى دفنت بين تلك العلب الكرتونية.. رسم المخرج والبطلة بعمق ودقة سواء بالرمز فى صناعة هذا التكوين بأحد ركنى المسرح بتصميم الديكور.. وتراكم علب الكرتون ثم أداء دعاء الحميمى الأقرب إلى كل أم وامرأة مصرية سواء بملامحها أو حركتها وطريقة جلستها وأسلوب تحدثها بالهاتف؛ ثم مجموعة الشباب الواعد المنطلق بحماسة ومرونة ومهارة كبيرة فى أداء أدوار متنوعة بين مطربى المهرجانات ومحترفى اللعب على مواقع التواصل الاجتماعى وركاب المترو ومذيعين وعملاء وطلبة ومعلم فاسد كل هذه الأدوار المتنوعة شارك فى لعبها برشاقة وذكاء المحترفين مجموعة من الشباب الذى يمنحهم عفيفى بهذا العمل فرصة لإبراز مواهبهم التمثيلية فى مواضع متفرقة وهم إياد رامي؛ رنا عاصم؛ أحمد سعد؛ أمينة صلاح الدين؛ بكر محمد؛ هاجر عوض؛ وشاركهم فى البطولة بدور المثقف محمد عبد الفتاح؛ أزياء مى كمال وإعداد موسيقى حازم الكفراوى.