حتى لا ننسى.. 58 عاما على إعدام الأب الروحى لـخوارج العصر
«سيد قطب» أسقط أركان الإسلام حتى إقامة دولة «الخلافة».. وخطَّط لإغراق نصف مصر
محمد شعبان
«الإرهاب» وضعت أفكاره فى الغرب، وصُنع على أيادى «جُهلاء»، أطلقوا على أنفسهم مفكرين، لكنهم فى الحقيقة «مدلسون»، استغلوا الإسلام لتحقيق مكاسب شخصية، وتحالفوا مع الشيطان، ليكتبوا دستور القتل، ممهورًا بدماء الأبرياء، واليوم تمر الذكرى الـ58 لإعدام مُنظر الإرهاب الأشهر سيد قطب، والذى أُعدم فى ٢٩ أغسطس عام ١٩٦٦، وكان آخر ما قاله قبل تنفيذ الحكم، وفق شهادة اللواء فؤاد علام، الذى كان وقتها ضابطا صغيرا، والذى اصطحب سيد قطب إلى غرفة الإعدام: «للأسف لم ينجحوا-أى تنظيم ٦٥- فى تفجير القناطر الخيرية»، حيث كان يتصور أن تدمير القناطر وإغراق نصف مصر هو بداية الثورة الإسلامية.
لكن السؤال الأهم، هو كيف وصل الحال بكاتب بدأ حياته الإبداعية رومانسيًا إلى تكفير المجتمع والتحريض على ممارسة الإجرام والإرهاب، ضد الأبرياء، لدرجة أنه أصبح مُنظرا لجميع حركات التطرف والعنف فى العالم و المنتسبة كذبا للإسلام، وسنستعرض خلال التقرير ثلاثة كتب كشفت عن جوانب مختلفة لمسار وفكر سيد قطب.
فى كتابه المكون من جزءين بعنوان «لماذا أعتبر سيد قطب أسطورة فكرية مزيفة وما البديل؟» يتتبع المؤلف محمد إبراهيم مبروك، مسيرة سيد قطب منذ نشأته، وحتى إعدامه، راصدًا أبرز المحطات والمواقف التى مر بها ومرت به، ولعل أهم ما سجله الكتاب فى جزئه الأول هو التحليل النفسى الذى قدمه لسيد قطب، وكيف صنعت الأحداث والمواقف الأولى التى مر بها فى حياته هذه الشخصية الحادة.. وفيما يلى أبرز هذه الصور النفسية كما يصورها الكتاب:
_مال عقل سيد قطب، إلى المبالغة الشديدة والحدة فى اتخاذ المواقف حبًا أو كراهية ومدحًا أو ذمًا، فهو على أبعاد الزاوية الممتدة من الصفر إلى الـ١٨0، لا يعرف المنتصف أبدا ولا حتى زاوية قريبة منه، وهذا يفسر حالة التطرف والغلو التى رافقته عندما تحول من شاعر وأديب رومانسى، إلى كاتب دينى متطرف، فمن المبالغة فى المدح والذم إلى تكفير الجميع.
الانعزال عن الآخرين والحياة، دفع به إلى الخيال والبعد عن الواقع، حيث كان تجاهل أساتذته لأعماله الأدبية أثره الكبير على شعوره بالمرارة والإحباط كما ذكر هو نفسه فى رسالته التى وجهها للكاتب الكبير أحمد أمين، كما كانت لفجيعته فى قصة حبه أكبر الأثر على مسار حياته وأفكاره حيث دفعته إلى الزهد فى هذا العالم، والبحث عن وجهة أخرى فاتجه نحو الدين، حاملًا معه كل هذه الأبعاد النفسية، إذ دفعته هذه الأمور مجتمعة بالإضافة إلى ما يعانيه من أمراض متفاقمة -لم يكشف عنها- نحو الانتحار.
تنظيم ٦٥
واعتمد المؤلف على ما سجله سيد قطب بنفسه فى كتابه: لماذا أعدمونى؟ وقيامه بتأسيس تنظيم سرى لقيام مجتمع إسلامى- من وجهة نظره-، وقد أسس «قطب» التنظيم على تكفير المجتمعات البشرية كلها، وهذه نماذج من نصوصه المؤسسة لفكرة التنظيم:
المجتمعات البشرية بجملتها قد بعدت عن فهم وإدراك معنى الإسلام ذاته، ولم تبعد فقط عن الأخلاق الإسلامية والنظام الإسلامى والشريعة الإسلامية، إذاً فأية حركة إسلامية يجب أن تبدأ من إعادة تفهيم الناس معنى الإسلام ومدلول العقيدة، وهو أن تكون العبودية لله وحده سواء فى الاعتقاد بألوهيته وحده، أو تقديم الشعائر التعبدية له وحده، أو الخضوع والتحاكم إلى نظامه وشريعته وحدها، ولا يجوز البدء بأى تنظيم إلا بعد وصول الأفراد إلى درجة عالية من فهم العقيدة.
ورتب سيد قطب على ما سبق تأسيس قوة عسكرية لتنفيذ هذا المشروع والاشتباك مع الرافضين لهذا الفكر إذ قال:» يجب حماية هذه الحركة وهى سائرة فى خطواتها هذه، بحيث إذا اعتدى عليها وعلى أصحابها ترد الاعتداء».
وفى شهادة أخرى لقيادى إخوانى يدعى أحمد عبدالمجيد يعترف بتنسيق الإخوان مع الخارج لتسلم سلاح موجود فى إفريقيا وسينقل إلى السودان ثم أسوان، وحصر العمليات-الإرهابية- التى ستتم داخل مصر وتحديد كل مجموعة لها وتمرينهم عليها، وبدأت عمليات التدريب على السلاح والمتفجرات وغير ذلك على أن يكون ذلك للدفاع الشرعى فقط، وكأن استخدام المتفجرات ضد أجهزة الدولة يُسمى دفاعا شرعيا.
إسلام بلا عبادات
واحدة من أخطر الملاحظات التى يسجلها المؤلف، تمثلت فى إسقاط سيد قطب لأركان الإسلام الخمسة حتى قيام الدولة الدينية التى يدعو لها التنظيم الإرهابي،حيث يقول المؤلف:» سيد قطب يجعل العبادات التى هى أركان الإسلام، وهى صلب الدين ولبه، فى مرتبة ثانوية جزئية من الغاية التى خلق الله الجن والإنس من أجلها وهى «الخلافة وعمارة الأرض»، إذ قال: «إنما أطلقت لفظة العبادة على الشعائر التعبدية باعتبارها صورة من صور الدينونة لله فى شأن من الشئون، صورة لا تستغرق مدلول العبادة بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة»، ويكمل: «يترتب على كلام قطب أن تفقد العبادات قيمتها الذاتية المستقلة وتنحط عن منزلتها الرفيعة العالية، فتصبح الدعوة إلى إقامتها عملا جزئيا غير ذى بال، فالتابع لا قيمة له مع غياب المتبوع- أى دولة الإخوان المزعومة- والفرع لا قيام له مع سقوط الأصل».
التكفير
يسرد الكتاب العديد من النصوص المتكررة لسيد قطب والتى يُكفر فيها المجتمعات المسلمة بوضوح لا لبس فيه، وفيما يلى نموذج واحد من نصوص قطب التكفيرية المتعددة..
المجتمع الجاهلى هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم ويدخل فى إطار المجتمع الجاهلى تلك المجتمعات التى تزعم لنفسها أنها مسلمة، وهذه المجتمعات لا تدخل فى هذا الإطار، لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضا، ولكنها تدخل فى هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده فى نظام حياتها، فهى وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله، تعطى أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها وكل مقومات حياتها تقريبا.
الأزهر يرد
يًعد كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق» هو المرجع الأعلى لكل تيارات العنف والإرهاب المنتسبين زورًا للإسلام، وعقب صدور هذا الكتاب أصدر الأزهر تقريرا حوله، وكتب التقرير الشيخ عبداللطيف السبكى رئيس لجنة الفتوى بالأزهر وقتها، وفيما يلى أبرز ما سجله التقرير عن هذا الكتاب الإرهابى:
رغم أن الكتاب موضوعه الدعوة إلى الإسلام لكن أسلوبه أسلوب استفزازى، يفاجئ القارئ بما يهيج مشاعره الدينية، خاصة إذا كان من الشباب أو البسطاء الذين يندفعون فى غير روية.
ويرصد التقرير تكفير سيد قطب للمسلمين وإنكار وجود أمة مسلمة، وذلك فى عدة نصوص مثل قوله: وجود الأمة الإسلامية قد انقطع من قرون كثيرة ولابد من إعادة وجود هذه الأمة لكى يؤدى الإسلام دوره المرتقب فى قيادة البشرية مرة أخرى.. نحن اليوم فى جاهلية كالجاهلية التى عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية.
ويورد تقرير الأزهر مقولة سيد قطب التالية: «الأرض لله، لا حاكمية إلا لله، لا شريعة إلا من الله.. ولا سلطان لأحد على أحد.. وهذا هو الطريق».. ثم يعلق السبكى قائلا: هذا أسلوب المدلسين باسم الدين فى قوله: الأرض لله والحاكمية لله ولا حاكمية إلا لله.. كلمة قالها الخوارج قديما وهى وسيلتهم إلى ماكان منهم فى عهد الإمام على، من تشقيق الجماعة الإسلامية، وتفريق الصفوف، وهى الكلمة المغرضة الخبيثة التى قال عنها الإمام علي: كلمة حق أريد بها باطل، فالمؤلف-أى سيد قطب - يدعو مرة إلى بعث جديد فى الرقعة الإسلامية، ثم يتوسع فيجعلها دعوة فى الدنيا كلها وهى دعوة على يد الطليعة التى ينشدها والتى وضع كتابه هذا ليرشد بمعالمه هذه الطليعة كما يقرر، وليس أغرب من هذه النزعة الخيالية وهى نزعة تخريبية يسميها طريق الإسلام، والإسلام كما هو اسمه ومسماه يأبى الفتنة ولو فى أبسط صوره فكيف إذا كانت فتنة غاشمة جبارة كالتى يتخيلها سيد قطب.
وعندما يقول مؤلف معالم فى الطريق:» الجهاد ضرورة للدعوة إذا كانت أهدافها هى إعلان تحرير الإنسان، إعلانا جادا يواجه الواقع الفعلى.. سواء كان الوطن الإسلامى آمنا أو مهددا من جيرانه» يعلق تقرير الأزهر قائلا: هذه دعوة إلى إشعال الحروب مع الغير ولو كان الوطن الإسلامى آمنا مع أن نصوص القرآن والسنة، وتوجيهات الإسلام عامة لا تدعو إلى مثل هذا الانفعال الغشيم، وليس أجهل ممن يفهم ذلك ولا أخبث قصدا ممن ينادى بذلك والقرآن نفسه يدعونا حتى فى حالة الحرب أن نقتصد فى العداوة «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها» فكيف نشعلها حربا لا تخمد؟
ويختم السبكى التقرير بقوله: صار واضحا من منطق الكاتب نفسه أن كتابه» معالم فى الطريق» دعوة هدامة غير سلمية ولا هادفة إلى إصلاح، وأسلوب صاحبها كأسلوب الثائرين للإفساد فى كل مجتمع يخلطون بين حق وباطل ليموهوا على الناس، وهذه الحيلة هى نفسها حيلة إبليس فيما صنعه مع آدم وحواء، وفيما يدأب عليه دائما فى فتنة الناس عن دينهم وعن الخير فى دنياهم، ويزين لهم كل قبيح ويهون عليهم كل عسير حتى إذا ما تورطوا فى الفتنة تبرأ منهم وقال للإنسان « إنى بريء منك»، كما يدعو سيد قطب إلى إراقة الدماء والفتك بالأبرياء وتخريب العمران وترويع المجتمع، وتصدع الأمن، وإلهاب الفتن فى صور من الإفساد لا يعلم مداها غير الله.
نجيب محفوظ
كانت هناك علاقة صداقة تجمع بين سيد قطب ونجيب محفوظ، وقد رسم أديب نوبل صورة تفصيلية لشخصية «قطب» فى رواية المرايا تحت مسمى عبد الوهاب إسماعيل، وقد كشف محفوظ عن جوانب خفية فى شخصية قطب لم يرصدها غيره بحكم الصداقة القديمة بينهما وهذه أبرز ملامح سيد قطب كما صورها محفوظ: إنه اليوم أسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، وبالرَّغم من أننى لم ألقَ منه إلا مُعاملة كريمة أخويَّة إلا أننى لم أرتح أبدًا لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين، ومع ذلك أثار اهتمامى واحترامى بقوَّة منطقه، وهو يناقش أشخاصًا من المعروفين بثقافتهم الواسعة واطلاعهم العميق على اللغات الأجنبية، وامتاز بهدوء الأعصاب وأدب الحديث فما احتدَّ مرة أو انفعل ولا حاد عن الموضوعية.
ثم يسجل محفوظ النزعة المتعصبة عند قطب ضد الأقباط فيقول: «لم يكن يتكلم فى الدين، وبالرغم من تظاهره بالعصرية فى أفكاره وملبسه وأخذه بالأساليب الإفرنجية فى الطعام وارتياد دور السينما، إلا أنَّ تأثره بالدين وإيمانه بل وتعصُّبه لم تخف عليَّ، أذكر أن كاتبًا قبطيًّا شابًّا أهداه كتابًا له يحوى مقالات فى النقد والاجتماع فحدثنى عنه ذات يوم فى مقهى الفيشاوى فقال: إنه ذكيٌّ مطَّلع حسَّاس وذو أصالة فى الأسلوب والتفكير، فسألته ببراءة وكنتُ مُغرمًا بالكاتب: متى تكتب عنه؟ فابتسم ابتسامة غامضة وقال: انتظر وليطولن انتظارك»، فقلت له ماذا تعنى؟، فقال بحزم: لن أشترك فى بناء قلم سيعمل غدًا على تجريح تُراثنا الإسلامى بكافة السبل الملتوية»..فتساءلت بامتعاض: أأفهم من ذلك أنك مُتعصب؟..فقال باستهانة: لا تُهَدِّدنى بالأكليشهات فإنها لا تهزنى».
جانب آخر كشف عنه محفوظ، وهو أن سيد قطب لم يكن يصوم رمضان ويتعلل بالمرض دون أن يذكر طبيعة مرضه فيقول: كان يشكو صحته كلما سنحت مناسبة، وبها يتعلَّل فى إفطار رمضان، ولكنه لم يصرِّح بحقيقة مرضه لأحد.
وحول انتهازية سيد يقول محفوظ: تكشَّف لى جانب منه لم أكن لأصدِّقه لو لم أخبره بنفسي، ذلك أنه كان يوجد كاتب صاحب مجلَّة ومطبعة تُصدر سلسلة شهرية من الكتب، وكان عبد الوهاب يحتقره ويقول عنه: لولا مجلته لما وجد مجلة تقبل أن تنشر له كلمة، وكم أدهشنى أن أُطالع له مقالة فى الرسالة عن صاحب المجلَّة رفعه فيها إلى السماء! حرت فى تفسير ذلك، حتى علمتُ بأنه اتفق معه على نشر كتاب له فى سلسلته الشهرية نظير أجر ممتاز لم يظفر بمثله كاتب آخر، وتذكرتُ فى الحال موقفه الأعمى من الكاتب القبطي، فأزعجنى جدًّا اكتشاف ذلك الجانب الانتهازى فى شخصيته، وساورنى شك من ناحية صدقه وأمانته، واستقرَّ فى نفسى — رغم صداقتنا — نفور دائم منه.
ورصد محفوظ التغيرات التى لحقت بقطب بعد انضمامه للإخوان، وخاض دون مقدمات فى المسائل العامَّة فأدلى بآرائه بكل ثقة قائلا: يجب أن يحلَّ القرآن مكان كافَّة القوانين المستوردة».
وقال عن المرأة: على المرأة أن تعود إلى البيت، لا بأس من أن تتعلم، ولكن لحساب البيت لا الوظيفة، ولا بأس من أن تضمن لها الدولة معاشًا فى حال الطلاق أو فقد العائل، وقال بقوَّة: الاشتراكيَّة والوطنية والحضارة الأوروبية خبائث علينا أن نجتثها من نفوسنا.
وحمل على العِلم حملة شعواء حتى ذُهلتُ فسألته: حتى العِلم؟، فرد: «نعم، لن نتميز به، نحن مسبوقون فيه، وسنظل مسبوقين مهما بذلنا، لا رسالة علمية لنا نقدمها للعالم، ولكن لدينا رسالة الإسلام وعبادة الله وحده لا رأس المال ولا المادية الجدليَّة».
استمعتُ إليه طويلًا ضاغطًا على انفعالاتى حتى لا أخل بواجب المجاملة ثم قمتُ للانصراف وأنا أسأله: ماذا عن المستقبل؟
– هل لديك اقتراح؟
– لديَّ اقتراح ولكنى أخشى أن يكون جاهليًّا، هو أن تعود إلى النقد الأدبى.