أيمن عبد المجيد
طبيبة كفر الدوار وأمراض «الشبكة العنكبوتية»
يدرس طلاب الطب، الجهاز العصبى البشرى، بشقيه المركزى «الدماغ والحبل الشوكىّ»، والطرفى «اليدين والقدمين»، بوظائفه الثلاثية: جمع المدخلات الحسية ونقل الإشارات ومعلومات البيئة الداخلية والخارجية، ومعالجتها وتحقيق الاستجابة الحركية المناسبة، كتفادى خطر، أو إيماءات الوجه، أو الهضم، وغيرها من الاستجابات الداخلية والحركية.
وللأهمية البالغة للدماغ والحبل الشوكىّ، فهما يمثلان الجهاز العصبى المركزى، كما فى الحاسب الآلى وحدة المعالجة المركزية، فقد اختصهم الله بحماية مشددة، غلاف عظمى للمخ «الجمجمة»، وعمود فقرى للحبل الشوكى ناقل الإشارات، ثم ثلاثة أغشية تعرف بـ«السحائية».
الأغشية الثلاثة، يعرفها الأطباء باسم «الأم» ربما لدورها فى احتضان وحماية المخ والحبل الشوكىّ، «الأم الجافية» تبطن الجمجمة وتنقل الدماء إلى القلب، و«الأم العنكبوتية»، مليئة بسائل الدماغ لتوفير بطانة إضافية لامتصاص الصدمات الجسدية لحماية المخ، وغشاء «الأم الحنون»، الملتصق مباشرة بسطح الدماغ والحبل الشوكىّ.
ويعد النزيف تحت «العنكبوتية»، تسرب الدماء إلى المسافة الفاصلة بينها و«الأم الحنون»، من أخطر الأمراض التى تهدد بفقدان الحياة، وتصيب الإنسان بصداع حاد، آلامه غير مسبوقة.. قيء، وتشويش فى الرؤية، وأحيانًا، فقدان الوعى، فهى تهدد المخ الجزء الأكبر من الدماغ المسئول عن الذاكرة واللغة والإدراك الحسى واللغوى والاستجابة العاطفية.
فى اعتقادى بين أمراض «الجسد»، وأمراض «الإنترنت»، الكثير من المتشابهات إلى حد التطابق، بين نزيف «الأم العنكبوتية»، الذى يفقدها وظيفتها الحمائية، ويحول شعيراتها الدموية إلى مصدر تهديد لقدرة المخ على أداء وظائفه الإدراكية والحسية والتوجيهية، وبين نزيف «الشبكة العنكبوتية الإلكترونية»، الذى يحولها من مُبتكر عصرى أنتجه العقل البشرى، للارتقاء بمستوى الخدمات والتواصل الفعال البناء، ومعدلات الرفاهية، إلى صداع للرأى العام مهدد لسلامة مدركات العقل ذاته ونشر الأكاذيب والشائعات وتهديد سلامة وأمن المجتمعات.
ومن «الحبل الشوكيّ»، فى أحضان العمود الفقرى بجسد الإنسان ودوره المحورى كموصل للإشارات والاستجابات الداخلية والخارجية من المخ إلى الأطراف والعكس، ليتحول إلى مصدر أوجاع وآلام إذا ما تعرض لالتهابات أو ضغوط فقرات الحماية، إلى التهابات ما يمكن وصفه بـ«الحبل الشوكى الرقمى»، مواقع التواصل الاجتماعى فيتحول دورها من وسيلة نقل المعلومات والتواصل البناء والتفاعل والتعارف بين أبناء المجتمع الواحد والأمم الأخرى، إلى ساحات لنشر الأكاذيب والشائعات، وبث الفرقة والشقاق ونثر بذور اليأس والإحباط.
عولمة الأمراض «الجسدية» و«الرقمية»
وما بين الالتهابات والنزيف، تنوعت الأمراض «الجسدية»، و«الرقمية»، وتباينت درجات خطورتها على حياة «الإنسان»، وسلامة وأمن «المجتمعات»، بل المدقق يكتشف أن الكثير من تلك الأمراض ظواهر عالمية، لا يقتصر تفشيها على مجتمعات بعينها نتيجة جينات أو سلوكيات، تمامًا مثل وباء كوفيد 19، الذى لم يستثن مجتمعًا حول العالم.
وبما يفوق سرعة تفشى فيروس كورونا، تتفشى المخاطر والأمراض الرقمية عالميًا، بما تتيحه شبكة الإنترنت من وسائل وآليات غير مسبوقة للتواصل ونقل المعلومات، وتهديدات اختراق مادى للمؤسسات ومعنوى وفكرى للمجتمعات ووعيها العام.
وتتنوع درجات المخاطر والتحديات، كما الأمراض، من استغلال سلبى لمنتجات العصر الرقمية، بنشر الشائعات وانتهاك الخصوصية والعدوان على أعراف المجتمعات وقيمها، إلى الأكثر خطورة تحولها إلى سلاح لدول وتنظيمات تستهدف خصومها بهجمات رقمية منظمة، والقذائف السيبرانية، وتعنى السيطرة والتحكم الرقمى فى الهدف عن بعد.
وتتنوع أهداف الحرب السيبرانية بين استخباراتية تجسسية، تستهدف السطو على بيانات ومعلومات سرية لمؤسسات سيادية للخصم، أو أعمال الإعاقة والسيطرة على البنية التحتية الرقمية للخصم وشل قدرته على التحكم فى وظائفها، إلى أعمال إجرامية جماعية أو فردية تقوم بها شبكات للاستيلاء على أموال مؤسسات وأفراد ونقلها لحسابات المهاجمين.
ويعد استثمار التنظيمات الإرهابية، للشبكة العنكبوتية، هو الأخطر، والذى يتنوع فى مستويات ودرجات خطورته، بين نشر فكر التطرف والفهم الخاطئ لصحيح الدين، بما يمكنهم من بسط سطوتهم الفكرية، إلى رصد التفاعلات مع المواقف والأحداث الطارئة على مواقع التواصل الاجتماعى وتوظيفها وإدارتها لتحقيق مكتسبات أيديولوجية، إلى عمليات الاستقطاب والتواصل الرقمى المُشفر الآمن مع الخلايا لتنفيذ توجيهات وعمليات تخريبية.
عولمة المخاطر والتحديات والأمراض الرقمية تستوجب فى المُقابل عولمة المواجهة، فالعدوى أقوى من أن تحول الحدود الجغرافية والإجراءات الدولية الفردية دون انتقالها وتفشيها.
نحتاج إلى مواجهة عالمية تكفل ضمانة الانتقال الآمن إلى عقد رقمي، فى ظل ثورة الذكاء الاصطناعى، يحقق الأهداف التنموية لثورة التكنولوجيا لتتمكن من بناء مُستقبل مُشترك للدول والمواطنين والشركات، ويعزز الابتكار ومرونة الخدمات والاقتصاديات، وخلق مجتمعات أكثر ازدهارًا حتى لا تكون مصدرا للهدم.
أوروبا وضعت رؤيتها عبر مفوضيتها لـ«العقد الرقمى»، انطلاقًا من أربعة مرتكزات: تطوير مهارات إنتاج واستثمار التكنولوجيا الرقمية، ورفع كفاءة البنية التحتية والقدرات، وتوظيف الرقمنة فى رفع كفاءة الخدمات العامة، ورقمنة الأعمال لخلق أسواق منفتحة وتنافسية بفرص متساوية للابتكار وتقديم المنتجات والخدمات للمستهلكين.
وبات حتميًا أن تستفيق الأمة العربية، لتسارع الخطى، فى التفاعل مع الثورة الرقمية، ومستجداتها اللحظية لاستثمار مكتسباتها، وتحصين المجتمعات ضد مخاطرها وابتكار العلاجات الناجعة لأمراضها.
وفى ظل استمرار معاناة عدد ليس بقليل من دول محيطنا الإقليمى، من صراعات وشروخ فى بنيانها المؤسسي، نتيجة التعاطى الهدام مع هجمات 2011 على الوعى العام، وتزييفه لإنتاج سلوك جماهيرى انحرف بالمشروع من مطالب إصلاح وتغيير إلى التخريب والتدمير، بات على الدول التى أنجاها الله وقوة مؤسساتها ووعى شعبها، أن تتكاتف لاستعادة قوة الدولة الوطنية العربية، وتحقيق طفرات استثمار الثورة الرقمية ومواجهة تحدياتها.
مصر قطعت شوطا كبيرا فى هذا الطريق، فعلى مستوى المهارات تضمنت استراتيجيتها للتنمية الشاملة 2030، تحقيق مستهدفات بناء المهارات، وأسست الجامعات والكليات اللازمة، مع إطلاق مبادرات تأسيس النشء لإنتاج وتوظيف أمثل للتكنولوجيا، وعلى مستويات البنية التحتية بدأنا خطوة أولى بتأسيس مركز البيانات والحوسبة الحسابية، وربط منظومة الإدارة الحكومية رقميًا، والتوسع التدريجى فى الرقمنة لحوكمة وتيسير الخدمات، مع الاهتمام بمبادرات ريادة الأعمال.
بيد أن الشق الوقائى من مخاطر الثورة الرقمية، أمنيًا واجتماعيًا وفكريًا، يتطلب جهدا مضاعفًا، كونه لا يقل أهمية عن جهود التطوير والبناء، بداية من خلق كوادر من العلماء تواكب تطورات تكنولوجيا الاختراق وتبتكر معززات دفاعات التأمين، مرورًا بخفض المقاومة المجتمعية للتحول، عبر تعزيز الثقافة الرقمية، ومكتسباتها، وصولًا إلى عقول واعية محصنة تُجيد تجنب أمراض التكنولوجيا وتحدياتها، قادرة على تعظيم إيجابياتها والاستثمار الأمثل لمكتسباتها.
طبيبة كفر الدوار عرض لمرض
ومن الرؤية الشاملة للفرص والتحديات، ننتقل إلى حالة فردية تمثل نموذجًا لأحد أخطر أمراض التكنولوجيا التى تستوجب البحث لها عن علاج.
وسام شعيب طبيبة كفر الدوار مُجرد عرض لمرض، حالة فردية كاشفة لما يقترب من ظاهرة تفشى أمراض اجتماعية خلقتها ثورة العصر «الرقمية»، إدمان «الشهرة الإلكترونية»، وإن شئت الدقة «تسويق الذات إلكترونيًا»، سعيًا لتحقيق مكاسب مادية ومعنوية.
تلك الحالة مفردة، لتكرار متزايد لحالات مماثلة تسعى لهدف مشترك، إشباع شهوة الشهرة، وتحقيق أرباح مالية بلا منتج رقمى نافع أو إنتاج مهنى أو خدمة تشبع حاجة فعلية لدى أمواج المستهلكين المتلاطمة فى محيط مواقع التواصل على الشبكة العنكبوتية «الإنترنت».
فعلى منصات التواصل المتنوعة، تجد مدعى الأخلاق المتاجر بالدين، يستهدف الملايين بخطاب بلا أساس معرفى ولا تأسيس علمى يؤهله للفتوى، فقط يستهدف الشهرة، والمكاسب الدولارية من المنصات الرقمية قياسًا على عدد المشاهدات والتعليقات وإعادة النشر «الشير».
فئة أخرى تخدع المتابعين بذريعة تفسر الأحلام، وثالثة تتاجر بجسدها بمحتوى يخاطب غرائز المراهقين وغيرهم من الباحثين عن القصص الجنسية التى تقدم فى شكل رسائل واعترافات وغالبيتها مختلقة ووهمية تتلوها أصوات مُخلقة بالذكاء الاصطناعى، لتحقيق هدف الربح السريع الحرام.
تجد من تصور نفسها من ظهرها فى مطبخ، مدعية أنها تقدم وصفات لمتابعيها، فى حين تركز الكاميرا على جسدها كاشفة الهدف الحقيقى، بحثًا عن المال، تلك العدوى المتسارعة أسقطت بعضهن فى بئر الإنترنت بما تحويه من قاذورات ونفايات أخلاقية.
بلغ الأمر بالبعض توظيف منصات التواصل الاجتماعى فى التسول «الرقمي»، بتصوير فيديوهات تستجدى الاستعطاف، وتطلب الدعم بالإعجاب وإعادة النشر «اللايك والشير».
وفى ظل تلك الحالات السلبية، هناك الكثير من المحتوى الهادف والتنويري، ومنصات لوسائل إعلامية احترافية، ففى النهاية المصابون بالأمراض الرقمية أقل كثيرًا من الجسد السليم لرواد التواصل الاجتماعى، لكن المصابين بأمراض التكنولوجيا باتوا يمثلون خطرًا حقيقيًا على المجتمعات مما يستوجب المواجهة العلاجية.
الخطورة فى حالة طبيبة كفر الدوار، أنها يفترض فيها درجة معقولة من الوعى، فهى ليست فتاة سطحية الفكر بلا عمل تسعى لاكتساب المال عبر منصات التواصل الاجتماعى.
لا شك أن هناك حالات انحراف أخلاقى، أو تعرض لجرائم اعتداء جنسى ينتج عنها «حمل سفاح»، فى كل المجتمعات الإنسانية على مر العصور، لكن الجريمة تكمن فى التعميم واتهام المجتمع ككل والتشكيك فى الأنساب بلا قرينة بدعوة الآباء لإجراء تحليل «دى إن أيه» لإثبات النسب!!
فهل تقبل الطبيبة أن يطلب شخص ما من زوجها ذلك لإثبات نسب أبنائها بدون أى سبب يبرره؟!
ولماذا ترفض روايات الحالات التى زعمت أنها ناظرتها، ثم تتخطى ألم أسرهن الإنسانى ولحظة ضعفهن منصبة نفسها قاضيًا وجلادا، لتتفاخر بأنها لم تمد يد العون لأم الفتاة عندما سقطت مغشيًا عليها من صدمة عدم إمكانية الخلاص من جنينها!! إن صدقت مزاعمها فقد خالفت القيم الإنسانية والطبية.
إن الإسلام الذى تزعم الطبيبة أنها تطالب التمسك بتعاليمه، ذكر الله سبحانه وتعالى لنا فى قرآنه أدب المعاملات، وحذر من رمى المحصنات، وفضيلة الستر، وآداب النصيحة «الكلمة الطيبة»، وحذر من «الكلمة الخبيثة»، فكلتاهما تنبت شجرة ولكن شتان بين شجرة طيبة تؤتى أكلها كل حين، وشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض.
روى لنا الإسلام آداب المجتمعات، والخوف من نظرتها وعقابها المخطئ، فقالت السيدة مريم وهى طاهرة لم ترتكب أى إثم: «يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا»، بما يعكس خشيتها من نظرة المجتمع الظالمة، وعندما ظن بها المجتمع سوءا وهو يعلم نشأتها الطيبة وامتداد أسرتها الصالحة قالوا: «يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءِ وما كانت أمك بغيًا»، وقد برأها الله فتحدث إليهم سيدنا المسيح طفلًا.
أين المتاجرون بالدين من فهم صحيحه، ومقاصده وتعاليمه؟
إن ما يبثونه على منصات التواصل مجرد حكايات يتاجرون بها لتحقيق الكسب السريع الحرام، ولهم فيه مآرب أخرى، وقد يفيقون عندما يصابون بنزيف تحت «الشبكة العنكبوتية الرقمية»، ويواجهون العقوبات القانونية.
القضية جد خطيرة، أمراض التواصل الاجتماعى والعصر الرقمى آفة عالمية، تنطلق عدواها بسرعة البرق، فكل نموذج يشاهد عاطلا بات صاحب ملايين من دولارات البث المباشر والمحتوى السلبى يصاب بالعدوى ويسعى للتقليد الأعمى، والكثير منهم تتعثر خطاه فيسقط فى بئر الشبكة العنكبوتية.. والطريف عند السقوط يتلقفه مريض آخر للتربح من أزمته، فيأكل لحم أخيه «البلوجر» حيًا، والمتطرفون أيضًا خرجوا ليتاجروا، بما يمكن وصفه بـ«متوالية عدوى المرض الرقمى».. احذروا.
حفظ الله مصر ومكنها ومخلصى الوطن العربى والعالم من المواجهة العالمية لأخطر تحديات وأمراض الثورة الرقمية.