التابعة رؤية فنية معاصرة تشتبك مع واقع مرير
هند سلامة
هل تكفى السخرية لطرح رؤية نقدية تشتبك مع واقع مرير؟!..، هكذا ينبأنا المخرج توفيق الجبالى فى أحدث أعماله المسرحية «التابعة» الذى تم عرضه على هامش فعاليات الدورة الخامسة والعشرين بأيام قرطاج المسرحية على خشبة مسرح التياترو بمدينة تونس، عمل مسرحى عنوانه الحيوية والمعاصرة سواء على مستوى التناول أو الأداء أو القضية المطروحة.. قضية كانت ولا تزال الهم العربى الأول لدى المبدعين من كتاب وشعراء، عن فلسطين وجرائم الإبادة الجماعية والتهجير.. قضية تفرض نفسها على الإعلام والإبداع العربي.. لكن كيف عبر المبدعون عن هذه القضية ربما يجنح أغلبهم إلى تناول أجوف أقرب للصراخ والعويل وتكرار عبارات وشعارات رنانة بأداء مسرحى مبالغ فيه، أداء حنجورى أشبه بما نطالعه على صفحات الأخبار وألسنة الإعلاميين.
بينما يأتى «الجبالى» ليمزج السخرية بالألم.. ويغزل عملا فنيا يجمع بين الحداثة أو ما يطلق عليه المسرحيون اليوم من مصطلح شائك ومراوغ «ما بعد الحداثة» الذى يعتمد على الممثل بشكل أساسى وعلى نقد سلوكيات إنسانية أكثر من تقديم رؤية فنية تقليدية، يصفه المخرج وليد الدغسنى فى كتاب تكريمه «توفيق الجبالى وسؤال ما بعد الدراما».. بأنه يرجع النص إلى دائرة ضيقة ويعلى من أسس الفرجة ما بعد الحداثية.. فى مسرح ما بعد الدراما يموت نص المؤلف ويولد نص الطاقات بحسب تعبير جون فرانسوا ليوتار»، يتحرر «الجبالى» من الشكل المعتاد التقليدى للكتابة المسرحية ليس هناك شخصية مسرحية لها أبعاد درامية وملامح وتفاصيل واضحة بينما تعتمد الشخصيات على الفوضى فى تناول ملامحها الشخصية أو فى أداء سلوكيات هيستيرية متتابعة وكأن هذه الشخصيات تعبر وبدقة عن حالة الهيستيريا الجماعية التى تعانى منها اليوم الشعوب العربية فى ممارسة ردود أفعال موتورة ومبتورة حول ما يشهده الواقع من مذابح هيستيرية!
يقدم «الجبالى» فى «التابعة» أو اللعنة التابعة كما أراد أن يطلق عليها نسبة إلى اللعنة التى أصابت مجتمعات متهالكة إنسانيا، مجتمعات تحتفظ بأسباب الهلاك داخلها، وبالتالى تتتابع عليها اللعنات.. حيث لا مفر، فى «التابعة» ستجد إفرازا لا يتوقف لمجموعة من الطاقات التمثيلية المذهلة سواء فى الأداء التمثيلى الساخر من أوضاع هذه الشخصيات الموتورة أو فى الأداء الحركى الجماعي.. «غزل الجبالى» من الواقع العربى فى تخاذله وتشرذمه حالة مسرحية استثنائية يعرض لنا مستويات من اللامبالاة و«العته» النفسى الذى أصاب الكثير من البشر فى أشكال تفاعلهم مع الواقع، نجد مجموعة من النساء يثرثرن بلا جدوى فى حوارات جانبية فارغة جمل مدغدة غير مكتملة الألفاظ أو المعانى يتشاجرن ويتحركن حركة عشوائية بأجسادهن تعكس مدى الفوضى الإنسانية التى يحيا داخلها هؤلاء فى مواجهة واقع أليم.
بينما على النقيض يعيش رجل آخر معاناته، رجل يحمل هم البحث عن معنى لحياته بينما يفشل فى الوصول إلى الكلمات التى تعبر عن حقيقة واقعه الذى عجز عن فهمه، يظهر هذا الرجل جالسًا على كرسى متحرك يعبر عن عذاباته النفسية وخذلانه فى واقع عجز عن التعايش معه أو التعبير عنه، انفصال تام يبدو واضحا بين هذا الرجل المهموم بالبحث عن المعنى وهؤلاء الثرثارات، وكأن هذا العاجز يعبر عن المثقف العربى الذى تاه فى فوضى الواقع وأصبح الواقع أقسى وأكثر غموضا والتباسا من أن يعيد قراءته وتفسيره، واقع مشوش فقد فيه صاحب القلب والقلم بوصلة الرؤية وأدوات التعبير الحسى واللفظى.
لا يحمل العرض رسائل مباشرة واضحة بقدر اعتماده على افراز معانى بالصورة المسرحية، بجانب هذه الحوارات عديمة الجدوى التى دارت بين هؤلاء النسوة، نراهم فى بداية العرض يسيرون مصطفين حاملين مجموعة من حقائب السفر وكأنها شاشات مصغرة عرض خلالها صور متلاحقة لأطفال فلسطين، مشهد تعبيرى بليغ عن حالة الإبادة والتهجير التى يعيشها الشعب الفلسطينى فى ظل ثرثرة فارغة ممن حولهم من مجتمعات عربية، لم يتوقف المخرج توفيق الجبالى عن الاستمرار فى مواكبة الواقع حيث يسعى دائما لتقديم مزج وتداخل بديع بين المسرح وأحدث تقنيات الصورة بالعصر الحديث فهو قادر على تقديم المسرح بخيال سينمائي، خيال لن تشعر معه بأنك انتقلت إلى السينما، فهو لا ينقل المشاهد إلى شاشة السينما بينما يستطيع بعذوبة وحياكة التفاصيل معا بمهارة ترزى متمكن أن يشبك السينما بالمسرح فى وحدة واحدة، لتجد نفسك انتقلت إلى وسيط ثالث جمع عالمين متناقضين فى روعة وإبداع كبيرين، فى مشهد المطر الأخير الذى حول الممثلين وخشبة المسرح إلى مكان وعالم آخر، عالم مواز انتقل إليه أبطال العمل تحولت خشبة المسرح إلى واقع جديد تماما.. نفذ المشهد وكأننا فى أحد مسارح أوروبا وليس على خشبة مسرح التياترو بمدينة تونس، ثم المشهد الأفخم والأهم أو الــ«Master Scene» المشهد الرئيسى بالعرض عندما انشطر البطل نصفين وأصبح يحاكم ذاته على ما لم يستطع مواجهته وتحقيقيه والبوح به، نرى البطل المغلوب على أمره واقفا وراء ستارة بيضاء ثم تتجسد نفسه أمامه، هنا استطاع الجبالى أن ينقل إحدى وسائل الخدع السينمائية إلى خشبة المسرح يرى الجمهور البطل متجسدا أمام ذاته رؤية العين وكأن روحه خرجت من جسده لترى نفسه على حقيقتها يرى ضعفها وانكسارها ويناجى نفسه ويحاكمها على كل ما اقترفته من ضعف وخذلان، وبالتالى لم يتفوق المخرج بمجرد إخراج معان ذات عمق وأثر فى تناول القضية الفلسطينية أو فى نقده الساخر للواقع العربى المهترئ بتصويره البليغ لهذه المجتمعات المشغولة بالثرثرة واللغو أو مثقفيها المنسحقين أمام هذا الواقع والعاجزين عن التأثير فيه أو التفاعل معه والمعذبين باعتزاله حد الوصول إلى الانتحار بالعزوف عن الحياة من الأساس، كل هذه المعانى تناولها الجبالى فى قالب مسرحى شديد المعاصرة والحداثة ليؤكد على أنه مخرج واع بواقعه المعاصر سواء فى مواكبة قضاياه الحالية أو فى كيفية تناول هذه القضايا فهو مخرج لا يفقد حيويته.