هانى حجر
أكتوبر الذاكرة التى لا تموت
يأتى شهر أكتوبر كل عام عند المصريين مختلفًا عن باقى الشهور فهو محفور فى ذاكرة الأمة بالإنجازات والانتصارات إننا لا نحتفل به باعتباره تاريخًا مضى بل نراه فرصة متجددة كى نستعيد الدرس ونستفيد من تحصيله.
لقد مر على هذه الحرب الخالدة ما يقرب من اثنين وخمسين عامًا ومع ذلك حين نتذكر تاريخ السادس من أكتوبر 1973 ما زال الشعور ذاته يتجدد ويتوارثه جيل بعد جيل كأن النصر حدث بالأمس القريب.
وقبل هذا اليوم العظيم عاشت مصر سنوات صعبة تجرعت فيها مرارة ما بعد نكسة 1967 سنوات حاول فيها الاحتلال أن يغرس فى النفوس أن الهزيمة قدر أبدى. لكن الحقيقة أن الشعوب قد تنكسر لحظة لكنها لا تهزم أبدًا، كان الجيش يعيد بناء نفسه فى صمت وكان الشعب خلفه يصبر ويضحى حتى جاءت اللحظة الفاصلة التى قلبت موازين التاريخ.
فى السادس من أكتوبر ومع دقات الساعة الثانية دوت صيحات «الله أكبر» على ضفتى القناة فكان العبور العظيم. لم يكن عبور الجنود وحدهم بل عبور أمة بأكملها من ظلام الانكسار إلى نور الكرامة استطاع الجندى المصرى أن يحطم أسطورة خط بارليف فى ساعات قليلة وأن يرفع العلم على الضفة الشرقية من القناة ليعلن للعالم أن الإرادة الإنسانية أقوى من كل التحصينات والعتاد.
يبقى هنا سؤال يطرح نفسه بقوة ما هو سر خلود هذا الشهر؟
والإجابة ببساطة: إن سر خلود أكتوبر يكمن فى أنه لم يكن انتصارًا عسكريًا فحسب بل أصبح رمزًا متجددًا للإرادة والعزيمة فكلما أطل علينا هذا الشهر عاد ليذكّرنا بأن هذه الأمة قادرة على تجاوز الهزائم وصناعة الانتصارات ولذلك صار أكتوبر يُعرف فى وجدان المصريين بشهر الانتصارات ليس لأنه يحيى ذكرى معركة واحدة بل لأنه يفتح الباب أمام معنى أوسع: أن الانتصار يمكن أن يتكرر فى كل زمان ومكان.
إن من يعتقد أن احتلال أرض الغير سيكون سهلًا مرة أخرى فهو واهم، أكتوبر علمنا أن الإرادة القومية والتضحيات قادرة على كسر حسابات القوة وأن النصر لا يُقاس بعدد الطائرات والدبابات بقدر ما يُقاس بصمود وبسالة الإنسان وإيمانه بعدالة قضيته لقد ظنّوا يومًا أن النكسة قدر محتوم فجاء أكتوبر ليقول: إن الشعوب قد تنكسر لحظة، لكنها لا تُهزم أبدًا ومن أراد استقرارًا حقيقيًا، فليبتعد عن أوهام الاحتلال وليعلم أن المستقبل يُصنع بالسلام العادل والاحترام المتبادل لا بالأحلام البائسة ولا بالهيمنة الزائفة
واليوم حين نحتفل بأكتوبر لا ينبغى أن نقتصر على مشاهدة الأفلام العسكرية أو ترديد الشعارات بل أن نجعل منه منهجًا للحياة فكما عبر الأبطال القناة تحت وابل النيران نحن بحاجة لعبور جديد فى ميادين العلم والإنتاج والعمل وكما اجتمعت كلمة المصريين آنذاك على هدف واحد نحن بحاجة إلى وحدة الصف لمواجهة تحديات الداخل والخارج
إن أكتوبر ليس مجرد معركة ماضية بل هو كل انتصار تحققه الأمة على الجهل والفقر والمرض إنه يذكرنا دومًا أن الشعوب التى صنعت التاريخ قادرة على صناعته من جديد.
يبقى أكتوبر فى وجدان المصريين والعرب جميعًا أكثر من مجرد ذكرى حرب إنه دليل على أنه لا يوجد شيء اسمه مستحيل، والمستحيل يمكن أن يتحول إلى واقع إذا اجتمعت الإرادة وتوحد الصف فكما صنع أبطالنا ملحمة العبور بالأمس يمكن لأجيال اليوم أن تصنع عبورًا جديدًا نحو مستقبل أفضل ملىء بالأمجاد والبطولات فى ميادين البناء والعلم والعمل.
إن أكتوبر ليس قصة تُروى كل عام للتسلية أو لمشاهدة أفلام الانتصارات عبر الشاشات فحسب بل هو عهد متجدد بأن هذه الأمة قادرة على النهوض كلما حاولت طيور الظلام أن تهتك ستر الوطن يذكّرهم أكتوبر أن السواتر تُبنى بالإيمان والتضحية.
لذلك يظل أكتوبر شهر الانتصارات وشهر الأمل وشهر الرسالة الخالدة: لا هزيمة تدوم ولا قوة تستطيع أن تكسر شعبًا يعرف كيف يصنع النصر.






