السبت 8 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ميلاد المسرح فى مصر القديمة

برديات تتضمن نصوصًا مسرحية كاملة وهوامش لتوجيهات الممثلين

«نحن فى حاجة إلى قرنين من الزمان حتى نصل لهذا المستوى الرفيع من قانون الأخلاق والحضارة المصرية القديمة».. «والاس بادج».. حضارة ألهمت شعوب الغرب والشرق.. استقرت مطمئنة آلاف السنين.. كتب لها الخلود والبقاء حتى يستلهم منها العالم الكثير؛ وما زالت هذه الحضارة تجود بكنوزها المدفونة؛ حتى أننا لم نتوصل إلى كل مراحل تطور تلك الحضارة الخالدة الممتد أثرها على مر العصور؛ وبما أن المصرى القديم برع وسبق فى كل شيء حتى فى عبادة الإله الواحد؛ فبالتأكيد كان الأسبق فى اكتشاف عالم الدراما والمسرح؛ على عكس ما قد تحتويه كتب الدراما المقررة على طلاب أكاديميات ومعاهد المسرح والتى تشير إلى بدايته الجماهيرية منذ عهد الإغريق؛ بينما فى بحث حديث دأب على جمع مادته المخرج المسرحى الدكتور عمر المعتز بالله والذى أصدر إثره كتابًا بعنوان «المسرح المصرى القديم» عام 2023 يؤكد على بداية المسرح منذ عهد المصريين القدماء.. عرض عمر نماذج من المسرح فى مصر القديمة بكتابة مفصلة يشرح ويحلل بالأدلة والبراهين المدعمة بمجموعات هائلة من المادة المصورة وشرح معمار المعابد تفصيليا وكيفية استغلال هذا المعمار فى تقديم عروض مسرحية جماهيرية؛ ثم نماذج من البرديات الأصلية التى تم العثور عليها وتحتوى على نصوص مسرحية كاملة؛ لم تكتف تلك البرديات بالنص المسرحى فحسب بل بشرح عناصره وتفاصيله الفنية والتقنية بدقة متناهية مثل احتواء هذه العروض على عناصر الإضاءة والديكور واستغلال مساحات المعابد الأثرية وتوظيفها فى سينوغرافيا العرض.



 

كتب هذه الدراسة المهمة فى أسلوب هادئ رشيق.. أسلوب محرض ومحفز للقارئ على مواصلة القراءة والاطلاع على فصوله؛ فلم يعتمد على الكتابة الأكاديمية العلمية المتخصصة؛ بينما استعرض المعلومات الغزيرة المتوفرة لديه من بحث طويل فى بناء معمارى محكم وكأنه يخطط لرسم هندسى بمبنى شاهق كل تفصيلة  تؤدى إلى أخرى حتى تتسع لك الرؤية كاملة كما لو كان يتجول بك فى أحد المعابد الأثرية ويخبرك كيف تم إنشاؤها فى تؤدة وتدقيق.. استعار من فن السرد الروائى طريقة فى عرض وتفصيل محتويات الكتاب يشير فى المقدمة إلى تاريخ بدء هذا الفن عند المصريين القدماء بخلفية تاريخية مدققة..

 «يرجع عالم المصريات الفرنسى «إيتن دريتون» ظهور المسرح فى مصر القديمة إلى عام 3200 ق.م؛ ويشاركه الرأى العالم الألمانى «كورت زيته» فى حين يرى الآثارى «روسن» أن المسرح ظهر فى مصر قرابة 3000 ق.م؛ وأيا كان التاريخ الذى يتباحثون فيه وفى دقته فهو فى كل الأحوال يشير إلى أن ميلاد المسرح فى مصر حدث منذ قرابة خمسة آلاف عام تقريبا أو يزيد؛ أى أنه يعد الأقدم فى العالم القديم إذا ما قورن بظهور المسارح العالمية الشرقية منها والغربية». 

يطلعنا عمر على أسرار ومعلومات ربما لم تكن رائجة أو متاحة من قبل؛ جاء فى فصول الكتاب شرحًا مفصلًا عن الدراما فى البرديات المصرية القديمة؛ العناصر المسرحية فى مصر القديمة؛ مسرحيات الأسرار المصرية؛ الدراما الجنائزية؛ الرقص؛ الأقنعة؛ الاحتفالات والأعياد. 

بردية «برلين»

«احتوت البرديات فى مصر القديمة على العديد من النصوص المختلفة الخاصة بالعبادات والطقوس وما بين أيدينا من معالم باقية تزودنا بجديد من تلك الإرشادات التى تضمها بعض البرديات إلى جانب مرثية «إيزيس» خلال أيام الحداد على أوزيريس؛ فهى وإن لم تكن نصوصًا مسرحية حقة؛ فإن الحوار الذى ينظمها حوار تخاطبى يتصل بالمسرح أكثر من اتصاله بالطقوس الدينية؛ يحتوى على إرشادات مختلفة أقرب «لإرشادات المخرج» الذى يوجه فيها الحوار بشكل بصرى لا يحتوى فقط على إرشادات فى اختيار من يقوم بتأدية الأدوار الحوارية؛ ولكن يحتوى أيضا على توجيهات خاصة بالحركة والملابس؛ والإكسسوار؛ وطريقة الأداء والإلقاء.. إن تلك البردية هى مرثية كتبت لإيزيس ونفتيس بالخطين الهيروغليفى والهيراطيقى وتم اكتشافها داخل تمثال أوزيريس بمنطقة آثار طيبة.. تنقسم إلى جزءين الأول يحتوى على بعض الفصول الجنائزية والجزء الثانى موضوع المرثية كتب فى خمس صفحات عبارة عن حوارات متتالية من حوار درامى بين إيزيس ونفتيس».

بردية المتحف البريطانى

هى بردية مكتوبة بالخط الهيراطيقى.. محفوظة فى سجلات المتحف البريطانى تحت اسم «بردية برمنر رند» وهى غير مخصصة للعرض المتحفى وتنتمى البردية إلى آخر من كان يمتلكها وهو الكاهن «حم» من طيبة، حيث وجدت ضمن مقتنياته الجنائزية.. تحتوى البردية على أربعة موضوعات منها طقوس الإله «سوكر» وطقوس الإطاحة بالثعبان «أبيب» رمز الفوضى والدمار وأغنيات إيزيس ونفتيس وخاتمة».

«بردية الرامسيوم الدرامية»

بردية تحتوى على نص درامى بالخط الهيروغليفى مقسم إلى مشاهد مرسومة توضح مشاهد تمثيلية للنص المصاحب مع هوامش إرشادية مكتوبة بالخط الهيراطيقى؛ وهذه البردية قد كتبت لتبجيل «الملك نسوت بيتى» سنوسرت الأول ثانى ملوك الأسرة الثانية عشرة من الدولة الوسطى تحتوى البردية على إرشادات لرسم الحركة المسرحية؛ إرشادات التمثيل؛ إرشادات تغيير المشاهد؛ شكل الحوار.. ومضمون الحوار»، إن النص فى هذه البردية مقسم إلى عدة مشاهد موزعة بالتتابع فى مائة وثمانية وثلاثين عمودا كتب بالخط الهيروغليفى؛ تبدأ البردية بوصف حدث ما؛ ودائما تبدأ الجمل الوصفية بجملة «يحكى أن» أو «قد حدث أن» ثم يتبعه شرح بصرى للحدث «المكان والديكور» كما نصت البردية على الأدوات المستخدمة فى الحدث كالإكسسوار مع ذكر أسماء وألقاب الممثلين الحقيقية ثم يلى النص الذى يدور فى هيئة الحوار هوامش إرشادات توضيحية مثل .. إرشادات رسم الحركة؛ إرشادات التمثيل؛ إرشادات تغيير المشاهد؛ شكل الحوار؛ ومضمون الحوار.

مسرحيات الأسرار المصرية

ولد المسرح بالمعبد «حوت»، حيث إن حضارة مصر القديمة كلها نبعت من الدين؛ فالمعبد كان حينئذ مأوى للأسرار؛ بل أكاديمية للبحث العلمى وكان يسمى بيت الحياة «بر عنخ» وكان الكاهن ساحرا وطبيبا وحكيما لأنه كان يعلم ما يخفى على غيره من أسرار العلم والكون؛ وفى المسرح الدينى كان الكاهن يقوم بدور المخرج والمؤلف ويوزع الأدوار على الممثلين الذين يتقمصون شخصيات الآلهة.

الممثل «إمحب»

وفى إشارة مهمة لخروج المسرح من دائرة الدين والمعبد تناول المؤلف بالبحث والتدقيق شكل آخر من أشكال المسرح فى مصر القديمة مثل ظهور الممثل المصرى القديم «إمحب».. «امتهن المسرح فرق متجولة مختلفة ممن أتقنوا تلك الصنعة وتكسبوا منها مثل المدعو «إمحب».. وهو شخص امتهن مهنة «الممثل» فى عصر الأسرة الثامنة عشرة من الدولة الحديثة 1580 ق.م؛ وقد عثر فى إدفو فى شمال أسوان على شاهد مقبرته الذى يحمل اسمه وألقابه ولمحات من تاريخ حياته.. ويذكر الحدث الذى كان له عظيم الأثر فى توجيه حياته؛ وذلك حين طلب إليه رجال سيده الإعلان عن العرض المسرحى بالدق على الطبول الكبرى، حيث إنه أستاذ فى فن الفكاهة على حد قوله؛ ليقوم بعدها بتأدية دوره فى هذه المسرحية التى أعلن عنها ثم يسهب فى السطور ويقول: « كنت ذاك الذى يتبع سيده فى كل جولاته دون تقصير فى الأداء.. ولقد كنت أرد على سيدى فى كل أدواره: فإذا قام بدور الإله كنت أقوم بدور الملك وإذا أمت أحدا أحياه هو».

«مسرحية الحدأتان»

«الحدأتان» هى مسرحية من فصل واحد ذات طبيعة غنائية كانت تعرض فى متحف «الأوزيريون» فى أبيدوس طبقا لبردية «برمينر رند» وهو نص درامى محفوظ فى المتحف البريطانى يشرح المعتز بالله أسباب اختيار المصرى القديم لـ «الحدأة» بالذات عن باقى الطيور والحيوانات ليشبه بها إيزيس ونفتيس.. «لم يختر المصرى القديم اختيارات عشوائية بل دائما كانت اختياراته مبنية على فكر فلسفى قوى ليطبقه تطبيقا فنيا متقنا.. ولقد شكلت الطيور عنصرا مهما من العقيدة «الإيقونجرافيا» المميزة فى الفن المصرى القديم وأشارت السمات المميزة لبعض الطيور إلى كائنات إلهية مختلفة وترتبط «الحدأة» على وجه الخصوص بإيزيس لتظهر على هيئتها فى بعض المشاهد الجنائزية.. وتعيش الحدأة فوق قمم الأشجار العالية وأعلى النباتات ودائما ما تشاهد وهى تحوم فوق الحقول، حيث تتميز بقوة البصر التى تمكنها من رصد أى شىء من ارتفاعات كبيرة وهذا ينطبق على قصة أختى أوزيريس» فى رحلة البحث عنه فكان لا بد لهما من أعين ثاقبة لتمكنهما من مطالعة الأماكن بحثًا عن جسد أوزيريس وكذلك صوت حاد ليمكنهما من نواحه ورثائه لما لصوت الحدأة من تميز يسمع من الأماكن البعيدة.

ويضيف الباحث.. «وبذلك يعطينا مؤلف تلك البردية قيمة درامية محققة من خلال عنوان المسرحية يمنح هنا فى هذا العمل الدرامى القصير دلالة رمزية وروحانية ليضيف جلالًا يليق بالربتين مثل بداية رحلة الحدأتين من الأرض بحثا ونواحا وتحليقا فى السماء. 

لم تتسع المساحة لعرض هذا الكتاب الثرى بالمعلومات والشرح والتفصيل عن نشأة وازدهار فن المسرح بعناصره المتكاملة فى مصر القديمة حتى أنه كان هو المرجع للمسرح الإغريقى وليس العكس مثلما أشار أفلاطون بعد رحلته إلى مصر فى كتابه القوانين 352 ق.م قائلا «ما من علم لدينا إلا وقد أخذناه عن مصر».