مصر تداوى جروح غزة وتنهى الانقسام
نور الدين أبوشقرة
خطة مصرية متكاملة لإعادة الإعمار وإزالة الركام وفتح الطرق
فى ظل الأزمة الإنسانية والدمار الهائل الذى لحق بقطاع غزة، وبعد مرور عامين على حرب الإبادة الجماعية، يبرز الدور المصرى مجددًا ليضيء طريق الأمل أمام الأشقاء فى القطاع. فبعد الجهود الأولى لوقف إطلاق النار وتوقيع اتفاق سلام أنهى الحرب على غزة المحاصرة، تعود القاهرة اليوم لتقود مرحلة جديدة من إعادة الإعمار، مستندة إلى دورها التاريخى ومسئوليتها القومية تجاه القضية الفلسطينية.
وبعد نجاح مصر، بشراكة أمريكية وقطرية وتركية، فى وقف إطلاق النار، تبرز من جديد كقوة إقليمية تضطلع بمسئوليتها، وتسعى بكل جهدها إلى نصرة الأشقاء الفلسطينيين عبر تحركات دبلوماسية ولوجيستية مكثفة، تستهدف عقد مؤتمر دولى لإعادة إعمار القطاع.
مصر بوابة الإعمار
يؤكد خبير العلاقات الدولية الدكتور أحمد سيد أحمد، أن قرار مصر باستضافة مؤتمر إعمار غزة، المقرر عقده فى شهر نوفمبر المقبل، يحمل أبعادًا استراتيجية بالغة الأهمية، فالموقع الجغرافى لمصر يجعلها البوابة الرئيسية لدخول المساعدات ومواد البناء إلى غزة عبر معبر رفح، وهو ما يجعلها الشريك اللوجيستى الأهم فى أى عملية إعمار. ويضيف: إن الثقل السياسى والدبلوماسى المصرى يمكّن القاهرة من حشد الدعمين الدولى والعربى لتمويل عملية الإعمار الضخمة، التى تُقدر تكلفتها بعشرات المليارات من الدولارات. لا تقتصر التحضيرات المصرية على الجانب الدبلوماسى أو حشد التمويل، بل تمتد إلى خطة متكاملة لإعادة الإعمار. ويشير الدكتور أحمد إلى أن الدولة المصرية تسعى لإنجاز عملية إعادة البناء من جذورها، بدءًا من إزالة الركام وفتح الطرق، مرورًا بإعادة بناء وترميم شبكات البنية التحتية الأساسية من كهرباء ومياه وصرف صحي.
وحدات سكنية متنقلة
وفى ضوء حجم الدمار الهائل، يعتبر توفير الوحدات السكنية المتنقلة من أهم متطلبات هذه المرحلة.
وتشمل الخطة المصرية أيضًا إنشاء بيوت متنقلة للمدارس والجامعات والعيادات والمراكز التى تم تدميرها بالكامل.
كما تخطط القاهرة لجلب عدد من الشركات العالمية والمكاتب الاستشارية المتخصصة فى البناء والتخطيط الحضري، لإنجاز مشروعات الإعمار بدعم عربى وأوروبي.
وقد كلف الرئيس عبدالفتاح السيسى بدراسة إنشاء آلية وطنية لجمع مساهمات وتبرعات من المواطنين المصريين، تعبيرًا عن التضامن الشعبى مع الأشقاء فى غزة.
تحديات وضمانات
يرى الدكتور جهاد الحرازين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس والقيادى فى حركة فتح، أن الرغبة المصرية الصادقة فى إنجاح مؤتمر إعمار غزة تصطدم بتحديات معقدة، أبرزها الحاجة إلى ضمانات دولية حقيقية تحول دون تكرار الدمار مستقبلاً.
ويؤكد “الحرازين” أن مصر هى الركيزة الأساسية للاستقرار الشامل فى المنطقة، وأن استضافتها لهذا المؤتمر تعكس التزامها التاريخى تجاه القضية الفلسطينية، وتؤكد دورها المحورى فى تحقيق استقرار الشرق الأوسط.
أما إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامى الحكومى فى غزة، فيكشف حجم الدمار الكارثى الذى خلفه العدوان الإسرائيلي، حيث دُمرت 300 ألف وحدة سكنية بشكل كلي، و200 ألف أخرى جزئيًا، إضافة إلى 25 مستشفى خرج عن الخدمة من أصل 38 مؤسسة علاجية، وتدمير 103 مراكز للرعاية الصحية الأولية.
كما تضررت 95% من مدارس القطاع، وتوقفت 85% من مرافق المياه والصرف الصحى عن العمل، فى حين خلّف العدوان ما لا يقل عن 55 مليون طن من الأنقاض، لم يُزَل منها سوى 81 ألف طن فقط حتى الآن.
تشكيل لجنة مؤقتة لإدارة القطاع وقرار أممى لنشر قوات دولية
فى الوقت الذى تسعى فيه جميع الأطراف إلى إنهاء حالة التوتر التى تواكب المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب على قطاع غزة، يشكل الاتفاق الفلسطينى الأخير لتسليم إدارة القطاع إلى «لجنة تكنوقراطية مؤقتة» محطة بالغة الأهمية فى مسار ما بعد الحرب.
فبينما يتحرك الفلسطينيون نحو استعادة الوحدة الوطنية وبناء إدارة تحفظ النظام السياسى وتعيد المؤسسات للعمل، تعمل إسرائيل فى المقابل على إعادة هندسة المشهد الميدانى والسياسى بما يضمن بقاء السيطرة الفعلية فى يدها، عبر فرض معاييرها الخاصة على تشكيل القوة الدولية المزمع نشرها فى القطاع، وتحويلها إلى أداة لضبط الأمن تخدم مصالحها الاستراتيجية.
خلال اجتماعات الفصائل الفلسطينية فى القاهرة، تم التوافق على سلسلة من الخطوات السياسية والإدارية الخاصة بمستقبل غزة، أبرزها تشكيل لجنة فلسطينية مؤقتة من المستقلين لإدارة شئون القطاع، إلى جانب الدعوة لإصدار قرار من مجلس الأمن بشأن نشر قوات أممية مؤقتة لمراقبة وقف إطلاق النار وضمان استمراره.
الأمن فى غزة
من جانبه، يؤكد جمال نزال، المتحدث باسم حركة فتح، أن توافق الفصائل الفلسطينية على تشكيل لجنة إدارية مهنية من الكفاءات لإدارة شئون قطاع غزة لفترة محددة يُعد خطوة مهمة ومطلوبة، شريطة أن تكون هذه اللجنة تحت مرجعية الحكومة الفلسطينية.
ويشير «نزال» إلى أن أى تجاهل لهذه المرجعية من قبل أى طرف سيُعد تكريسًا للانقسام، ويخدم أهداف الاحتلال الساعى إلى فصل غزة عن الضفة الغربية والقدس، ومنع تجسيد الدولة الفلسطينية الموحدة.
ويشدد على أن الأمن فى قطاع غزة مسئولية الأجهزة الأمنية الفلسطينية الرسمية، مؤكدًا أن أى قوة دولية إن وجدت يجب أن تكون على الحدود لا داخل القطاع، وبتفويض واضح ومحدد من مجلس الأمن، بما لا يمس بالسيادة الفلسطينية ولا بدور مؤسساتها الرسمية.
ويختتم المتحدث باسم حركة فتح تصريحه قائلًا: «يجب العمل على تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار، بما فى ذلك انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، ورفع الحصار المفروض عليه بالكامل، وفتح جميع المعابر وفى مقدمتها معبر رفح، وإدخال المساعدات الإنسانية والطبية، وبدء عملية إعادة إعمار شاملة تعيد الحياة الطبيعية إلى القطاع وتنهى معاناة سكانه».
رفض فلسطينى لـ«قوات دولية»
من جهته، يعتبر أستاذ العلوم الدولية، أسامة شعث، أن فكرة وجود قوى دولية داخل قطاع غزة مرفوضة شكلًا وموضوعًا، مشددًا على أن الوصاية أو الانتداب مرفوضان تمامًا.
ويوضح أن دور لجنة السلام الدولية يجب أن يقتصر على الرقابة والتدقيق فى إطار زمنى محدد، وضمان إلتزام جميع الأطراف بوقف الحرب، والإشراف على عملية إعادة الإعمار وتنفيذ الخطة، دون أى مساس بالقرار الوطنى المستقل أو بسيادة مؤسسات الدولة الفلسطينية.
ويضيف «شعث»: إن ملف السلاح الفلسطينى يجب أن يُدار ضمن رؤية وطنية شاملة تؤسس لسلطة واحدة وسلاح واحد وقانون واحد، بما يضمن وحدة الموقف والاستقرار الداخلي، ويفوّت على إسرائيل ذرائع استمرار العدوان أو تكريس الانقسام.
جهود مصرية لإنقاذ وقف الحرب
ويشير أستاذ العلوم الدولية إلى أنه يجب التوصل إلى اتفاق واضح وبنود معلنة للجميع، مؤكدًا أن مصر تدرك جيدًا أن عدم تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار سيكون فى مصلحة نتنياهو، الذى يماطل فى تنفيذ اتفاقية ترامب ويسعى إلى عودة الحرب وسفك الدماء، فى محاولة لاحتلال نصف قطاع غزة.
ويوضح أن القاهرة تعمل بكل طاقتها مع حركتى حماس والسلطة الفلسطينية لإنهاء الخلافات والتوصل إلى اتفاق شامل ونهائي، لأن نتنياهو يريد إبقاء الوضع على ما هو عليه لتحقيق مكاسب سياسية داخلية.
نتنياهو يتحايل على الوسطاء
ويؤكد «شعث» أن رئيس حكومة الاحتلال يسعى إلى التحايل على الوسطاء الدوليين، من خلال تأسيس ما يسمى بـ«مجلس السلام العالمي» بقيادة الولايات المتحدة، والذى من شأنه -إن تحقق- أن يمهد لتواجد دائم لقوات دولية فى غزة، وهو ما يُعد شكلًا جديدًا من الاحتلال المقنّع.
ويقول أستاذ العلوم السياسية: «نتنياهو يؤسس لكارثة حقيقية ستحدث لاحقًا، لأن المرحلة الثانية من الاتفاق ستفتح الطريق نحو الإعمار والاستقرار، وهو ما لا يريده الاحتلال».
ويتابع بالتأكيد أن مصر تسابق الزمن لحل الأزمة، وأنها تعى خطورة تشكيل حكومة تكنوقراط بدون مشاركة الفصائل الفلسطينية، وتقف بحزم أمام أى محاولات لتكريس الانقسام.
كما يشير إلى أن توحيد الموقف الفلسطينى حول لجنة التكنوقراط يمثل محاولة جادة لاحتواء الانقسام وتحييد الخلافات الأيديولوجية بين الفصائل، غير أن هشاشة البنية التنظيمية للاتفاق تبقى واضحة فى غياب تحديد الصلاحيات بين اللجنة والسلطة الفلسطينية، إضافة إلى الطابع المؤقت للجنة الذى يُبقى الباب مفتوحًا أمام صراعات النفوذ وتأخير بناء مؤسسات حكم مستدامة.






