د.عزة بدر
يا ليل يا عين
عندما تغنى كوكب الشرق رباعيات الخيام، وتصل إلى هذه الأبيات:
«أفِقْ خفيف الظل هذا السَحَّر/ نادى: دع النوم وناغ الوتر/ فما أطال النوم عمرًا/ ولا قصَّر فى الأعمار طول السهر»، كنت أبلغ غاية مُناىّ من أن يصبح اليوم أكثر من أربع وعشرين ساعة، وأكتفى من النوم بسويعات قليلة، وأطيل حياتى بالسهر إلى دواوين الشعر، وسماع الموسيقى، ومحاولة الإنجاز، وأقول لنفسى، الواحد يحتاج أن يصبح اليوم 48 ساعة!
وكل من يسألنى عن أحلى أوقاتى أقول: هو الليل قسيمى ونصيبى من الدنيا، وإلا ما بدأت فنون الموَّال بكلمة يا ليل يا عين! فهل بدأ موَّال بأن يغنى المغنى يا صبح يا عين؟ أو يا نهار يا عين؟!
إلى أن وقعت عينى على هذا الكتاب الذى ألفه ماثيو ووكر بعنوان «لماذا ننام - اكتشف قوة النوم والأحلام» وتفنن مصمم الغلاف فى إضافة شىء من بُهار العناوين مشوقًا قارئه فيقول: «مذهل»، «شديد الأهمية»، «طوق نجاة»، «أكثر الكتب مبيعًا فى العالم كله».
فيقول ماثيو ووكر فى كتابه والذى ترجمه إلى العربية الحارث نبهان، وصدر عن دار التنوير للطباعة والنشر:
تؤدى قلة النوم - حتى فى حال التقليل المعتدل من فترة النوم مدة أسبوع واحد فقط إلى اضطراب عميق فى مستويات السُكّر فى الدم «ما قبل السكرى»، وترفع قلة النوم احتمال إصابة الأوعية الدموية المغذية للقلب بالانسداد والهشاشة مما يضع المرء على طريق الإصابة بالأمراض القلبية الوعائية.
ويعزز ماثيو ووكر رؤيته بكلمات لشارلوت برونتى: «الذهن المضطرب يجعل الوسادة غير مريحة».
وماثيو هو أستاذ علم النفس والأعصاب بجامعة كاليفورنيا، وهو مدير مختبر النوم والتصوير العصبى فيها كما عمل سابقًا فى جامعة هارفارد أستاذًا للطب النفسى.
ويمزج المؤلف بين الأدب والعلم فى تناوله لأهمية النوم فيقول: فى مسرحية «ماكبث» يقول شكسبير: إن النوم هو العنصر المغذى الأكبر فى مدينة الحياة، فكل مرحلة من مراحل النوم تقدم فوائد مختلفة للدماغ فى أوقات مختلفة من الليل، وهناك نوم انعدام حركة العين السريعة الخفيف، ونوم انعدام حركة العين السريعة العميق، ونوم حركة العين السريعة، ولا يمكن اعتبار أن هناك نوعًا من النوم يمكن اعتباره أساسيًا أكثر من غيره، فخسارة أى نوع من أنواع النوم تسبب ضررًا للدماغ.
ولقد أثبت النوم مرة بعد مرة أنه مُعين للذاكرة إن كان قبل التعلم لإعداد الدماغ لاستقبال ذكريات جديدة، وإن كان بعد التعلم من أجل تثبيت تلك الذكريات ومنع نسيانها، فإذا نمت ست ساعات أو أقل فإنك تحرم الدماغ من فائدة تجديد القدرة على التعلم لأن هذه الفائدة لا تتحقق إلا من خلال مغازل النوم.
ومن أبرز فوائد النوم: الإبداع فهو يوفر مسرحًا ليليًا يتيح للدماغ إجراء التجارب وإقامة الصلات بين مخزونات كبيرة من المعلومات، فيدمج الدماغ النائم مجموعات منفصلة من المعارف فيقوى قدرات متميزة على حل المشكلات.
وليس أدل على أهمية النوم من أن إدارة موسوعة جينيس للأرقام القياسية العالمية قررت الكف عن قبول تسجيل محاولات كسر الرقم القياسى للحرمان من النوم بعد أن فوجئت بكثرة ما تبين من أدلة علمية تثبت الضرر الشديد الناتج عنه.
لا ينجو شىء فى الجسم من أضرار هائلة لفقدان النوم، والأخطر أنه مع النقص المزمن فى النوم على امتداد شهور أو سنين يتأقلم المرء مع حالة تدهور الأداء، وقلة الانتباه، وانخفاض مستوى الطاقة لديه، ويصير الإحساس بالإرهاق بعد بذل مجهود كبير أمرًا مقبولًا لديه.
بل حتى محاولة تعويض النوم الفائت لا تؤتى ثمارها فيقول ماثيو: «بعد عشرة أيام من الاكتفاء بسبع ساعات من النوم كل ليلة يصير الدماغ منخفض الأداء مثلما يصير بعد السهر أربعا وعشرين ساعة متواصلة، أى أن ثلاث ليالٍ من النوم التعويضى «أكثر من عطلة نهاية الأسبوع» غير كافية لاستعادة الأداء إلى مستويات بعد أسبوع من قلة النوم، ودماغ الإنسان غير قادر على الإحساس إحساسًا صائبًا بمقدار حرمانه من النوم عندما يكون محرومًا منه.
وتشير الإحصاءات إلى أن هناك 1٫2 مليون حادث سير بسبب النعاس حسب إحصائية فى الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 2019، وأنه خلال كل ثلاثين ثانية يقع حادث سير فى أمريكا بسبب النُعاس كما يقول المؤلف الذى يؤكد أن حوادث السيارات الناتجة عن القيادة تحت تأثير النُعاس تتجاوز مجموع الحوادث الناتجة عن قيادة السيارات تحت تأثير كل من الكحول والمخدرات، وهناك خرافات لا فائدة منها لمقاومة النُعاس أثناء قيادة السيارة مثل فكرة رفع صوت الراديو، وفتح النافذة، وتوجيه الهواء البارد من المكيف فى اتجاه الوجه، والتحدث على الهاتف، ومضغ اللبان، وإغراء الذات بالحصول على مكافأة لقاء التمكن من البقاء فى حالة يقظة.
لكن الكتاب يتحدث أيضا عن «نخبة قلة النوم» وهم القادرون على الاستمرار فى النوم ست ساعات فى الليلة الواحدة من غير أن يظهر عليهم أكثر من الحد الأدنى للضرر وهم أصحاب «جين» نادر، ونسبة هؤلاء واحد بالمائة من البشر الذين يستطيعون فعلًا مقاومة أثر نقص النوم المزمن على وظائف الدماغ بكل مستوياتها.
ويرى د.ثوماس روث: «أن نسبة الأشخاص - فى العالم كله - الذين يستطيعون الاستمرار على خمس ساعات من النوم أو أقل من غير أى ضرر يصيبهم فإن نسبتهم هى صفر».
قلة النوم أكبر تحدٍ أمام الصحة العامة فى القرن الواحد والعشرين، ورغم أننى كنت من حزب «عمر الخيام» فى السهر ليلًا وكنت أتمنى أن أكون من «نخبة قلة النوم» أصحاب الجين النادر، إلا أن الحذر أسلم، المهم أن الليل لا يزال له سحره، ونومه الذى لا يُقدر بثمن»، وحركة العين السريعة الخفيف والعميق تؤكد بلاغة وعبقرية المغنى والموال المصرى الذى يعرف قيمة الليل: «يا ليل يا عين».








