خبراء: الخوف يدفع الأسر للتفكير فى التعليم المنزلى
محمد السيد
فى صباحٍ دراسى عادى، يدخل مئات الأطفال مدارسهم بثقة، يعتقد الأهالى أنها كافية لحمايتهم، لكن خلف الجدران، وفى الممرات الضيقة، والصفوف المزدحمة، تقع حوادث لا تُرى بالعين المجردة، ولا تُكتشف أحيانًا إلا بعد سنوات.
إنه التحرش بالأطفال، واحد من أخطر الانتهاكات التى تهدد سلامة التلاميذ نفسيًا وتربويًا، رغم ما تبذله كثير من المؤسسات التعليمية من جهود للحد من هذه الجريمة.
وقائع الاعتداء على الأطفال داخل بعض المدارس تتوالى، وآخرها مدرسة «سيدز»، لتعيد إلى الواجهة سؤالًا ملحًّا حول مدى جاهزية المنظومة التعليمية لحماية الطلاب، وقدرة الأسر على دعم أبنائها نفسيًا بعد التعرّض للصدمات.
فعلى الرغم من أن تلك الجرائم ليست ظاهرة عامة، وفق ما يؤكده الخبراء، فإن خطورتها تكمن فى أنها تقع داخل أماكن يُفترض أن تكون آمنة تمامًا، ويقولون إن الأطفال غالبًا يفقدون القدرة على وصف الانتهاك، ويختارون الصمت خوفًا من العقاب أو اللوم.
صرخات الأمهات تؤكد أن أطفالنا فى خطر، وأن البيئة المدرسية قد تصبح غير آمنة فى بعض الأحيان، والمخاوف المتزايدة تدفعهم للتفكير فى التعليم المنزلي.
الأمهات يصرخن.. والمدارس تلتزم الصمت!
منذ وقوع حادثة الطفل ياسين، أصبحت المدارس بمثابة شبح يمثل للأمهات نوعًا من الرعب.
بهذه الكلمات تقول إيمان عطية، إحدى أولياء الأمور: «كنت أسلّم ابنى للباص معتقدة أنه متوجه إلى مكان آمن وتربوى يتضمن أنشطة تعليمية. أصبحت أشعر كأننى أودعه فى المجهول، بات لدى شعور بالخوف والقلق، وكأننى أدفعه نحو الهلاك بيدي. أفكر ليل نهار فى عدم إرساله إلى المدرسة، وأصبحت قلقة، مما جعلنى أترك كل ما فى يدى وأحاول طمأنة نفسى وتأمينه».
عايدة الدمنهوري، إحدى الأمهات، توضح: «المدرسة أصبحت كيانًا مهددًا نتيجة للإهمال المستمر. تُرك الأطفال فى ظروف غير آمنة وبدون أى رادع يضمن حقوقهم، وتحولت إلى مكان يثير الخوف فى نفوسنا».
وطالبت بأن تباشر وزارة التربية والتعليم دورًا رقابيًا وإداريًا فعالًا، والتواجد المستمر داخل المدارس لضمان سلامة الطلاب وتحسين بيئة التعليم.
والتقطت أطراف الحوار شيماء عبد الهادي، إحدى أولياء الأمور، مؤكدة: «شعرنا بالطمأنينة ورأينا بصيص أمل بعد أخذ القضاء مجراه، مع الأحكام الرادعة فى قضية ياسين، لكن ما حدث فى مدرسة سيدز وغيرها أثار مخاوفنا مجددًا».
وتوضح أن هذه المدارس تتلقى مبالغ ضخمة مقابل تقديم خدمات تعليمية وتأمينية، وتطالب بضرورة وجود كاميرات مراقبة لأولياء الأمور لمعرفة خط سير الطفل ولمتابعة أبنائنا ورؤيتهم فى أى وقت.
«ندفع فلوس كثيرة مقابل الأمان»، هذا ما أوضحته عزة عبد الكريم، إحدى الأمهات، إذ تؤكد أن هناك مخاوف متزايدة من البيئة المدرسية تدفعهن للتفكير فى نقل أبنائهن إلى مدارس أخرى، حتى وإن كانت تلك المدارس تتطلب رسومًا أقل. واقترحت أن تكون هناك إدارة قوية بحيث يكون لكل فرد فى الهيئة التعليمية فردان تحت إشرافه، وضرورة وجود مشرفة فى الحافلة تتولى الإشراف على الطلاب وتقوم بإبلاغ المعلمات بكل ما يتعلق بأحوالهم.
إيمان المنفلوطي، ولية أمر طفل، تقول إنها تعانى من خوف متزايد من إرسال أطفالها إلى المدرسة، وتتردد يوميًا فى اتخاذ قرار إرسالهم، وتفكر فى نقلهم إلى مدرسة حكومية بتكاليف منخفضة تجنبًا للكوارث التى تسبب القلق والتوتر. وتواصل: «غير منطقى دفع مبالغ كبيرة دون الحصول على الأمان والاستقرار».
كسر حاجز الصمت
د.هالة رمضان، أستاذ علم النفس ومدير المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، تقول: إن التأثيرات النفسية للاعتداء على الأطفال تشمل انخفاض تقدير الذات والشعور بالضعف والعزلة وتراجع الأداء الدراسي، وتؤدى هذه التأثيرات إلى الاضطرابات النفسية. وتشير إلى أهمية الوقاية من خلال دور الأسرة والمدرسة فى التوعية بحدود الجسد ودعم الطفل، والتأكيد على أن الثقة بين الأهل والطفل هى الأساس، وأن العقاب القاسى يؤدى إلى تفاقم المشكلة. وتواصل: «الأثر النفسى للاعتداء يؤثر على الأبناء بشكل متشابه، لكن الفتيات يعانين من انغلاق أكبر بسبب الضغوط الاجتماعية».
كسر حاجز الخوف
د.هدى زكريا، أستاذة علم الاجتماع، تؤكد أهمية إعادة النظر فى أساليب التربية، مستندة إلى دراسات تشير إلى أن طفلًا من كل ثمانية عالميًا يتعرض للتحرش. وتوضح: «اعتماد المجتمعات على أسلوب الأوامر دون تعزيز ثقة الطفل بنفسه يخلق منطقة خفية يستغلها الجناة، خاصة مع تجنب المؤسسات التربوية تقديم معلومات حقيقية للأطفال عن أجسادهم».
وتنوّه بأن ثقافة الصمت تسهم فى تفاقم المشكلة، وأن كسر الحاجز بالإبلاغ الفورى هو الداعم الأول لحماية الأبناء وردع الجناة. وتوضح أن فكرة التبليغ ليست متقبلة فى جميع البيئات الاجتماعية، إذ يخشى البعض نظرة المجتمع ووصم الضحية، وهو ما يعوّل عليه المجرمون فى تهديد الفتيات والفتيان واستسلامهم خوفًا من التشهير. وتوضح: «الثقافة السائدة فى بعض المجتمعات ما زالت تلوم الضحية، الأمر الذى يدفع الكثيرين إلى الصمت خشية العار أو السخرية والتشكيك».
جسد الطفل خط أحمر
د.أحمد علي، استشارى الطب النفسى وعلاج الإدمان، يوضح أن الاعتداءات على الأطفال تختلف فى شدتها، والعلاج يعتمد على عمر الطفل وحالته النفسية. ويؤكد أن الأطفال المعتدى عليهم يعانون غالبًا من فقدان الثقة بالنفس ومشاعر الدونية، ما يستوجب طمأنتهم بأن الخطأ ليس منهم بل من المعتدي.
ويوضح أن غياب الدعم يؤدى إلى اضطرابات متفاقمة تتطلب علاجًا نفسيًا طويل المدى يشمل الجلسات والتدخلات الدوائية، إضافة إلى العلاج السلوكى بدمج الطفل فى أنشطة تساعده على استعادة ثقته بنفسه. ويؤكد: «الاعتماد على الكاميرات غير كافٍ، خاصة فى المدارس الحكومية المكتظة».
ويطالب بتأهيل أولياء الأمور نفسيًا لأن ردود فعلهم تزيد الضغط على الطفل، ويؤكد ضرورة المتابعة الدورية لرصد التحسن ومعالجة السلوكيات الناتجة عن الصدمة. ويواصل: «مدة التعافى تختلف بطبيعة الحادث وشخصية الطفل، والمواجهة تقوم على التوعية الوقائية، والرقابة المدرسية، وتعليم قواعد السلامة الشخصية، والإبلاغ عن السلوكيات غير المناسبة».
الكاميرات ليست كافية
هانى هلال، الأمين العام للائتلاف المصرى لحقوق الطفل، يؤكد أن سياسات الحماية الواردة فى اللائحة التنفيذية للقانون منذ 2008 ما زالت غير مطبقة فى معظم المدارس، رغم أنها تمثل خط الدفاع الأول ضد الانتهاكات.
ويوضح أن المدارس لا تلتزم بمنظومة التبليغ السري، ولا بشروط اختيار العاملين كالصحيفة الجنائية والفحص النفسي، ما أدى إلى عودة موظفين سبق اتهامهم بالتحرش، واعتبر ذلك «كارثة قانونية وإنسانية».
ويطالب بعقوبات مشددة تشمل سحب تراخيص المدارس المتورطة، ونقل الطلاب، وتشديد عقوبة الجناة بحكم مسئوليتهم التربوية، وإعلان نتائج التحقيقات لطمأنة المجتمع. ويشيد بدور النيابة العامة، ويؤكد أن الجمعيات الأهلية قادرة على تقديم الدعم النفسي، لكن آثار الانتهاكات الجنسية طويلة الأمد إذا لم يتم التدخل مبكرًا.
من الوصم إلى الدعم
محمود البدوي، رئيس الجمعية المصرية لمساعدة الأحداث وحقوق الإنسان، يؤكد صعوبة الحصول على إحصاءات دقيقة لاعتداءات الأطفال بسبب انخفاض التبليغ وصمت بعض الأسر خوفًا من الوصم، ما يسهل إفلات الجناة ويعقد كشفهم. ويوضح أن المجتمع غير مؤهل للتعامل مع هذه القضايا، إذ يتعرض الأطفال للتنمر عند الإفصاح، ما يدفعهم للانطواء.
بناء جسور الثقة
د. إيمان عبد الله، خبيرة الصحة النفسية والإرشاد الأسري، تتابع أن جرائم التعدى على الأطفال زادت بكثرة، وترتبط فى الأساس بغياب الرقابة الأسرية وضعف التواصل مع الأبناء.
وتشير إلى أن آثار التحرش النفسية تبقى راسخة فى ذاكرة الطفل، وتوضح أن إهمال التربية ونقص الاحتضان وانشغال الوالدين فى العمل عوامل تزيد من هشاشة الطفل، خصوصًا فى ظل إحصاءات توضح أن 30% من الاعتداءات تتم على يد أقارب من الدرجة الأولى.
وتضيف: «القسوة فى التربية تقود لاحقًا إلى اضطرابات جنسية أو سلوكية، وأن الكثير من الحالات التى تلجأ للعلاج تعود جذورها لتجارب مؤلمة فى الطفولة». وشددت على أهمية بناء علاقة صداقة وثقة مع الأبناء، وتشجيعهم على الحديث بحرية دون عقاب.
وتواصل: «تعليم الأطفال حدود أجسادهم يبدأ من عمر السنتين بطرق مبسطة، والاعتماد على مواد توعوية مناسبة». وتؤكد أهمية وجود دور واضح للأبوين لأن غياب الرقابة يمثل بيئة خصبة لوقوع الانتهاكات.
من سنتين إلى المؤبد
المستشار أحمد السداوي، المحامي، يوضح أن الفترة الأخيرة شهدت تزايدًا ملحوظًا فى وقائع التحرش والاعتداءات الجسدية، وصلت فى بعض الحالات إلى هتك العرض والاغتصاب، الأمر الذى أثار مخاوف واسعة داخل الأسر. ويوضح: «عقوبة جريمة التحرش وفقًا للمادة 306 مكرر من قانون العقوبات هى الحبس سنتين، وتصل إلى 7 سنوات إذا تكرر الفعل، أما جريمة هتك العرض فتعاقب بالسجن ما بين 4 و7 سنوات، مع إمكانية وصول العقوبة إلى السجن المؤبد فى حال توافر الظروف المشددة، وفق المادة 268 عقوبات».






