الإثنين 29 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الاتزان الاستراتيجى عقيدة السياسة الخارجية

10 سنوات عززت الريادة المصرية إقليميًا ودوليًا

شهدت السياسة الخارجية المصرية خلال العقد الأخير تحولًا نوعيًا أعاد صياغة موقع القاهرة على خريطة التفاعلات الإقليمية والدولية، تحولت إلى موقع الفاعل المحورى، مستندة إلى ما بات يُعرف بـ«عقيدة الاتزان الاستراتيجى». ولم يكن هذا التحول نتاج تحركات دبلوماسية تقليدية، بل ثمرة عملية إعادة بناء شاملة لمرتكزات الدولة المصرية فى محيطها الحيوى، قوامها تنويع الشراكات، والندية فى العلاقات، ورفض الانخراط فى الاستقطابات الحادة، مع أولوية حماية الدولة الوطنية والحفاظ على تماسك مؤسساتها فى إقليم يعج بالصراعات.



فى مستهل هذا العقد، واجهت الدبلوماسية المصرية تحديات جسيمة، من بينها تجميد عضوية مصر فى الاتحاد الإفريقى وتوتر العلاقات مع بعض القوى الغربية. غير أن القاهرة اختارت مقاربة واقعية، انطلقت من قناعة مفادها أن استقرار الداخل هو أساس استعادة النفوذ الخارجى. وفى هذا السياق، فُعِّلت «الدبلوماسية الرئاسية» بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، عبر جولات واتصالات مكثفة شملت القوى الدولية التقليدية والصاعدة، لتتحول مصر تدريجيًا إلى نقطة تلاقٍ لمصالح أطراف متنافسة. وجاء انضمام القاهرة إلى مجموعة «بريكس» مطلع عام 2024 تتويجًا لهذا المسار، ودلالة واضحة على إعادة تموضعها داخل نظام دولى يتجه نحو التعددية القطبية.

وعلى الساحة الإفريقية، مثّلت السنوات العشر الماضية عودة واعية إلى العمق الاستراتيجى الطبيعى لمصر. فبعد استعادة مقعدها فى الاتحاد الإفريقى، انتقلت القاهرة إلى موقع القيادة، بتوليها رئاسة الاتحاد عام 2019، ثم رئاسة وكالة «نيباد» وتجمع «الكوميسا». واتخذ هذا الحضور طابعًا تنمويًا واضحًا، من خلال الانخراط فى مشروعات كبرى للبنية التحتية، مثل سد «جوليوس نيريرى» فى تنزانيا، ومشروعات الربط الكهربائى والملاحى بين دول القارة. ورغم ذلك، ظل ملف سد النهضة الإثيوبى الاختبار الأكثر تعقيدًا، حيث أدارت مصر القضية عبر مزيج من التمسك بالشرعية الدولية والضغط الدبلوماسى فى مجلس الأمن، مع التأكيد المستمر على أن الأمن المائى المصرى خط أحمر، والسعى إلى اتفاق قانونى ملزم يحفظ حقوق دول المصب.

وفى الدائرة العربية والإقليمية، عززت مصر موقعها كمركز ثقل لإدارة الأزمات، عبر سياسة ثابتة تقوم على رفض التدخلات الخارجية ودعم سيادة الدولة الوطنية. ففى ليبيا، أسهم «إعلان القاهرة» وتحديد خط «سرت–الجفرة» فى وقف التمدد العسكرى وفتح المسار السياسى. وفى الملف الفلسطينى، أعادت تطورات غزة خلال عامى 2023 و2024 التأكيد على الدور المصرى الفريد فى الوساطة والتهدئة، إلى جانب مواقف حاسمة ضد مخططات التهجير القسرى، باعتبارها تهديدًا مباشرًا للأمن القومى المصرى. كما نجحت القاهرة فى تخفيف حدة الاستقطاب الإقليمى عبر إعادة بناء العلاقات مع قوى محورية مثل تركيا وقطر، بما أسهم فى تعزيز التعاون الاقتصادى والأمنى.

كسر معادلة «مع أو ضد»

وفى هذا السياق، يؤكد السفير رخا أحمد، مساعد وزير الخارجية الأسبق، أن مفهوم الاتزان الاستراتيجى يعكس «نضجًا استثنائيًا» فى قراءة موازين القوى الدولية، مشيرًا إلى أن مصر كسرت معادلة «مع أو ضد»، فجمعت بين شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة فى ملفات الأمن، وتعاون عسكرى مع روسيا، واتفاقيات اقتصادية كبرى مع الصين. ويضيف أن ترقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبى فى مارس 2024 إلى مستوى شامل تعكس إدراك أوروبا لمركزية الدور المصرى بوصفه صمام أمان للاستقرار فى حوض المتوسط، خاصة فى ملفات الهجرة غير الشرعية والطاقة.

ويشير أحمد إلى أن القاهرة نجحت فى وقف تدفقات الهجرة غير النظامية من سواحلها منذ عام 2016، بالتوازى مع تعزيز دورها فى أمن الطاقة عبر اكتشافات الغاز فى شرق المتوسط وتأسيس «منتدى غاز شرق المتوسط» بالقاهرة. كما رسخت مصر عقيدة «مسافة السكة» فى علاقاتها الخليجية، باعتبار أمن الخليج امتدادًا لأمنها القومى، لتتطور هذه العلاقات إلى شراكات استثمارية لعبت دورًا محوريًا فى دعم الاستقرار الاقتصادى. وعلى صعيد القوة الناعمة، برزت «دبلوماسية البيئة» من خلال استضافة قمة المناخ COP27 فى شرم الشيخ عام 2022، حيث قادت مصر جهود إدراج ملف «الخسائر والأضرار» على الأجندة الدولية، معززة دورها كممثل لدول الجنوب.

عقيدة الاتزان الاستراتيجى

من جانبه، يرى السفير صلاح حليمة، مساعد وزير الخارجية الأسبق، أن عقيدة الاتزان الاستراتيجى تتجلى بوضوح فى إدارة الملفات الأكثر حساسية، من ليبيا إلى السودان وفلسطين، حيث توازن مصر بين منع الانزلاق إلى حروب إقليمية، ودعم المؤسسات الوطنية، والحفاظ على ثقة جميع الأطراف. 

ويؤكد أن هذه العقيدة لم تظل إطارًا نظريًا، بل ترجمت إلى قرارات عملية، أبرزها الانضمام إلى «بريكس» لتقليل الاعتماد على المركزية المالية الغربية وفتح آفاق للتبادل بالعملات المحلية.

ويضيف «حليمة» أن تطوير الخدمات القنصلية ودمج وزارة الهجرة مع الخارجية عكس رؤية جديدة للمواطن بالخارج بوصفه «سفيرًا تنمويًا»، إلى جانب استمرار القيادة المصرية لملف المناخ، بما عزز مكانة القاهرة كممثل معتبر لدول الجنوب العالمي. ويخلص إلى أن الاتزان الاستراتيجى يمثل اختيار مصر للطريق الأصعب، لكنه الأكثر أمانًا، طريق يضع «مصر أولًا»، ويوازن بين الاستقلالية والانفتاح، وبين الهدوء الاستراتيجى والفعل الحاسم.

وبنهاية عام 2024، كانت القاهرة قد نجحت فى الانتقال من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، وصاغت نموذجًا دبلوماسيًا يعكس صلابة الداخل ومرونة الخارج، ليجعل من مصر شريكًا لا غنى عنه فى معادلات الإقليم، وركيزة أساسية فى بناء نظام إقليمى جديد يحترم الدولة الوطنية ويعيد التوازن إلى محيط مضطرب.