السبت 2 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الشيخ النشرتى ثالث شيوخ الأزهر الشريف




وُلِدَ الشيخ الإمام محمد النشرتى ببلدة «نشرت» بمحافظة كفرالشيخ، وسمِّى بالنشرتى نسبةً إلى بلدته، وحَفِظَ القُرآن الكريم، ودرس بالأزهر، ولمَّا تولَّى مشيخة الأزهر سنة 1106هـ، ظلَّ يُواصل الدرس، وشغله منصبه وطلابه عن التأليف.
 
والإمام النشرتى هو ثالث شيوخ الأزهر العلماء الأفاضل، ومن أعلام المذهب المالكي، لم توجد له ترجمةٌ دقيقة فى المراجع التاريخيَّة إلا سطور متفرِّقة ومتناثرة فى بعض أجزاءٍ من كتب «الجبرتي»، وعدَّة سطور أوردَتْها اللجنة التى أصدرت كتاب «الأزهر فى اثنى عشر عامًا»، وذكَر الجبرتى أنَّ تلاميذ الإمام الشيخ النشرتى الإمام العالم العلامة صاحب المؤلَّفات الكثيرة والتقريرات المفيدة «أبو العباس أحمد بن عمر الديربى الشافعى الأزهري» - منهم الإمام الشيخ الصالح عبدالحى بن الحسن بن زين العابدين، ومنهم الإمام الفقيه المحدِّث الأصولى المتكلِّم شيخ الإسلام وعمدة الأنام الشيخ أحمد بن الحسن بن عبدالكريم الشافعي.
 
 ويقول الدكتور عبدالعزيز غنيم: ومع ما كان عليه الإمام الشيخ النشرتى من العلم، وما كان له من الفضل والمريدين والتلاميذ الذين طبقت شهرتهم الآفاق، فى الفقه المالكى بخاصَّة، وفى العلوم الدينيَّة والدنيويَّة على سبيل العموم، فإنَّ المصادر التى بحثت فى حياة الرجل وأعماله تؤكِّد أنَّه خلف رجالاً من العلماء كثيرين انتهت إليهم الصَّدارة فى عُلوم عُصورهم المختلفة والمتعدِّدة المجالات والتخصُّصات، وإنَّ القصد من هذا نريد تعريف القارئ الكريم بأنَّ العلماء الذين لم يتركوا وراءهم مؤلَّفات ضخمة ومصنَّفات فريدة لم يكونوا أقلَّ حظًّا من الذين خلفوا وراءهم رجالاً، خلدوا آراءهم وأفكارهم وأبقوا على مرِّ الزمن أخبارهم وآثارهم.
 
ونعود لنُكمل سيرةَ الإمام النشرتى لنُوضِّح بعض مَزاياه وفضائله التى لا تُذكَر، وعلمه الغزير، وأنَّه كان ذا قدرةٍ فائقةٍ على توضيح وإعراب ما فى نفسه، والإبانة عمَّا يجولُ بخاطِره وفكره، وهذه نعمةٌ لا يخصُّ الله بها غير القلَّة من عباده، ومن أجل ذلك كثُر تلاميذه، واشتدَّ الإقبال على دروسه، لا من مصر وحدَها بل من شتَّى ديار الإسلام كافَّة.
 
ولهذا ترك من خلفه رجالاً يحبهم ويحبونه، من أجلهم ترك التأليف والتصنيف ثقةً منه فى أنَّ أصحابه سيملأون طباقَ الأرض من علمه وأدبه ومعارفه، وفعلاً فعلوا، وكانوا عند حسن ظنِّه فيهم علمًا وخُلُقًا وأسلوبًا وسلوكًا.
 
وطلبة الإمام محمد النشرتى دائمًا يلتفُّون حوله ومتأثِّرون به إلى درجةٍ كبيرةٍ، ظهر ذلك بعد وفاته فى تماسكهم واتِّحادهم ومحاولة فرض آرائهم على ولاة الأمر، حتى فى اختيارهم لشيخ الأزهر بعد رحيل شيخهم؛ فوقع اختيارهم على تلميذه الإمام الشيخ «القليني»، وأصرَّت طائفةٌ أخرى على أنْ يتولَّى المشيخة الشيخ «النفراوي»، واستطاعت الطائفة الأولى أنْ تتغلَّب وتفرض إرادتها فرضًا بعد أحداثٍجسام ذكر ذلك الجبرتى وذكره «كنز الجواهر»، ورأى المؤرِّخون أنَّه من الخير الإشارة إلى هذه الأحداث؛ أداءً لحقِّ التاريخ، وإبرازًا لدور الأزهر فى التوجيه العام.
 
 آثاره العلميَّة فى طلبته
 
المعروف أنَّ الشيخ الإمام النشرتى كان يلقى دروسه وهو شيخٌ للأزهر بالمدرسة «الأقبغاوية»، وهى مكان مكتبة الأزهر الآن، فلمَّا لقى ربَّه طمع فى المشيخة والتدريس بالمدرسة الأقبغاويَّة الشيخ الإمام أحمد النفراوي، ولكنَّ تلاميذ النشرتى وقفوا ضدَّه، وعدم تمكينه من التعيين، واتَّفقوا فيما بينهم على أنْ يشغل المنصبين معًا زميلُهم الشيخ عبدالباقى القليني، وهو من التلاميذ النُّجَباء للإمام النشرتي، وهو من المتمكِّنين فى فقه المالكيَّة، ومن الصدف أنَّ القلينى لم يكن بمصرَ وقتها، فتعصَّبت له جماعة النشرتي، وأرسَلُوا يستعجلون حضوره، ولكنَّ الشيخ النفراوى لم ينتظر، بل تقدَّم لإلقاء دروسه بـ«الأقبغاوية»، فمنعه القاطنون بها وحضر القليني؛ فانضمَّ إليه زملاؤه وأنصاره، واتَّضح بعد التحقيق أنَّ الحقَّ فى جانب الشيخ القليني، فولى المشيخة والدرس، وأمر النفراوى بلزوم بيته، ونفى الشيخ «شنن» أيضًا.
 
ونعود مرَّةً أخرى إلى الإمام النشرتي، والسؤالُ الملحُّ الذى يطرح نفسه: لماذا لم يترجم الجبرتى يوميَّاته ترجمةً كافيةً كما فعَل مع الكثيرين من شيوخه وتلاميذه، واكتفى بكلماتٍ مبعثرة فى أنحاء كتابه؟! ولماذا لم يجبر هذا النقص واحداً أو أكثر من تلاميذه؟
 
والمتتبِّع لسيرة الإمام النشرتى يفهم ويدرك أنَّ الرجل كان ممَّن لا يطلبون الشهرة، وينبغى أنْ يكون عمله خالصًا لله وحدَه، وأنَّ تلاميذه كانوا يعرفون ذلك، فلم يترجموا له، وأيضًا كانوا يرَوْنَ أنَّ كلاًّ منهم هو صورةٌ من الشيخ النشرتى تمشى على الأرض، فلماذا الترجمة إذًا؟
وفاته
 
وظلَّ الرجل يُواصل عملَه فى التدريس حتىلقى ربه وهو يُؤدِّى واجبَه ورسالته على أفضل ما يكونُ من أداء الرسالة والنُّهوض بأعبائها.
 
ففى الثامن والعشرين من ذى الحجة 1120هـ - 1708م لبَّى نداء ربه، وحضر جنازتَه جمعٌ غفير من العلماء والوجهاء فى موكبٍ جليل مَهِيب، وهذا ممَّا يدلُّ على مكانته وعظيم شأنه، إلى جانب منزلته العلميَّة السامية، وأنَّه لَيومٌ مشهود لهذا العالم الجليل شُيِّعَ فيه إلى مثواه الأخير، بعد التقاليد المعتادة التى كانت تُؤدَّى فى الأزهر الشريف لكلِّ مَن يموت من شيوخ الأزهر، من قِراءة الخاتمة عليه والدعاء له من قِبَلِ مُريدِيه وعارفى فضله وأولياء الأمور فى الدولة