الأحد 3 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الشيخ شنن خامس شيوخ الأزهر.. أغنى أغنياء زمانه وفاق زملاءه فى الفقه المالكى






وُلد الإمام الشيخ محمد شنن 1056هـ - 1643م فى قرية صغيرة تسمى «الجدية» فى آخِر بلاد مديريَّة البحيرة من الجهة البحريَّة من أعمال بلاد الأرز على الشاطئ الغربى لبحر رشيد، وأبنيتها بالطين، وفيها جامع ونخل وكروم وأرض صالحة لكلِّ الزراعات التى تعودُ على أهلها بالخير الوفير، وقد ترجم «الجبرتي» لعلماء هذه القرية ممَّا ساعد على الإحاطة، والأسباب التى من أجلها تقدَّم الشيخ محمد شنن فى العلوم، وفاقَ زملاءه فى الفقه المالكي، وكعادة أهل القرية يُحفِّظون أبناءهم القُرآن الكريم، ثم يُرسلونهم للأزهر، انتقل الشيخ صغيرًا للأزهر وواصَل طلب العلم. لم يعثر له على ترجمة وافية، والواضح أنه تميَّز عمَّن سبقَه بالعلم الغزير والثراء العريض. هذا الثراء الوافر وهذه النِّعمة التى أسبغها الله عليه قال الجبرتي: إنَّه كان أغنى أغنياء زمانه، وكان لديه من الذهب والفضة على اختلاف أنواعها الكثير الذى لا يجودُ الزمان بمثله لغيره إلا بين زمنٍ وحين، إضافةً إلى الأملاك والضياع والأطيان، وكل ذلك لم يصرفه عن طلب وتحصيل العلم الذى يُعتبر أسمى صفةٍ من صفاته وتبحُّره فى علوم الفقه وأصوله، فأصبح عَلَمًا من أعلام المذهب والفقه المالكى فى زمانه.
توليه المشيخة
ولما تُوفِّى الشيخ القلينى تولَّى الشيخ محمد شنن مشيخةَ الأزهر، وكان الشيخ النفراوى قد مات قبلَ ذلك، ويذكر فى «عجائب الآثار» أنَّ الثلاثة -القلينى والنفراوى وشنن - كانوا من زُعَماء الأزهر المرموقين، فبعد وفاة القلينى وإعراضه عن مُزاولة مهامِّ منصبه فى مشيخة الأزهر، وحلَّ محله الإمام محمد شنن، وكما ذكر أنَّ هذه الحوادث قد وقعت فى أزمنةٍ لا وجود لها فى ذاكرة التاريخ. وكانت الظُّروف تجرى فى صالح الشيخ محمد شنن طوال فترة جلوسه على كرسى المشيخة، فقد تُوفِّى النفراوى ولم يعدْ هناك منافسٌ من أعيان المذهب المالكي.
آثاره العلمية وأعماله وتقديره للأزهر
ويمتازُ الإمام محمد شنن بما لديه من الكفاءة والكفاية؛ ما يجعله أهلاً لتحمُّل المسؤوليَّة الكبيرة التى يتطلَّبها منصبه البالغ الرفعة والشأن، ويتَّضح ذلك من حبِّه للأزهر وحِرصه الذى لا حدودَ له فى أنْ يرى الأزهر صرحًا شامخًا، يُلاحظ ذلك عندما رأى ذات يوم تصدُّعًا فى أحد أركان مبنى الجامع الأزهر، وخشى أنْ يكون له تأثير على بُنيانه، وأنَّه هو أصبح المسئول عن هذه الأمانة التى أُلقيت على عاتقه، فصعد إلى الوالى العثمانى فى القلعة، وقال له بعدَ أنْ أدَّى إليه تحيَّة الإسلام: المرجوُّ من حضرتِكم وعالى همَّتكم أنْ تكتُبوا لحضرة مولانا السلطان - نصَرَه الله العزيز الرحمن - لينعم على الأزهر بالعمارة فإنَّه محلٌّ للعلم الذى ببَقائه بقاء الدولة العثمانيَّة، وله ولك الثواب من المالك الوهَّاب، ووافق الوالى على الفور، واقترح أنْ يضع كبار المشايخ مذكرةً تُرفَع للسلطان ويُوقِّعوا عليها بأختامهم وأختام الباشا وكبار الأمراء والمماليك. واستجاب السلطان إلى ما جاء فى المذكِّرة التى رُفعت إليه، وأمر البعثة التى تحملُ موافقته على اعتماد خمسين كيسًا ديوانيًّا من مال الخزانة للانفاق فيها على إصلاح الجامع. وقد آثَر الانقطاع للعلم وحبس الوقت والجهد عليه، والقُرآن الكريم صرَّح بهذا التوجُّه فى قوله سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وفى السُّنَّة يقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (اطلُبوا العلمَ من المهد إلى اللَّحد))، ومع أنَّه كان واسعَ الثَّراء لم يُلهِه ذلك عن الاطِّلاع الواسع وبحثه عن العلوم، وهذا يُذكِّرنا بالمناظرة التى دارت بين أبى الوليد الباجى شيخِ فقهاء الأندلس وابن حزم كبير عُلَمائها، استمرَّت المذاكرة بينهما ثلاثةَ أيَّام، وفى نهايتها قال الوليد لابن حزم: اعذرني؛ فقد طلبت العلمَ على مصابيح الشوارع، يريدُ أنَّه بلغ مبلغه من العلم مع فقره الشديد الذى حرمه الذى حرمه من اتِّخاذ مصباح خاص به، فقال له ابن حزم: أنا أبلغُ منك عذرًا؛ فقد طلبتُ العلم على قناديل الذهب والفضة؛ يريد أنَّه لم يصرفُه ثراؤه العريض عن الإقبال على البحث والدرس حتى بلغ مَبلَغه من العلم. وكان الشيخ الإمام محمد شنن ذا مكانة سامية تقاربُ مكانة الحكَّام.
وفاته
وظلَّ الشيخ محمد شنن شيخًا للأزهر يشرف عليه ويُواصل البحث والتدريس فيه، وانتشَر علم الإمام الجليل فى دِيار الإسلام شرقًا وغربًا حتى هذا العصر الذى نعيشُ فيه ولا تنتهى مَزايا الإمام الجليل عند هذا الحد، وإنما له مَزايا أخرى منها: إنَّه لم يسعَ للمشيخة، وإنما هى التى سعَتْ إليه، فإنَّ تلاميذه وعارفى فضله قد جاءوا إثر اختفاء القلينى وعدم مُباشرته لمشيخة الأزهر، فقَبِلَها وهو غير راغبٍ فيها ولا حريص عليها؛ لأنها لن تضيفَ إليه جديدًا، فهو المشهور واسع الثراء والجاه، فقد أُوتِى من هذا كله فوقَ ما يريد. وتذكُر المصادر التاريخيَّة وفهارس المكتبات العامَّة فى مصر والخارج أنَّه لا تُوجد للشيخ محمد شنن مُصنَّفات ولا من الذين أرَّخوا له، ولعلَّه اكتفى وسار على نهج مَن سبقه بدِراسة وتدريس المصنَّفات المألوفة فى عَصره وتوضيح ما فيها من مشكلات. وكما ذكر أنَّه ظلَّ يُواصل البحث والتدريس حتى انتقل إلى جوار ربِّه فى سنة 1132هـ - 1720م وعُمره وقتها سبع وسبعون عامًا.