السبت 21 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فى دورته الـ25 أيام قرطاج ينتصر للإنسانية

شارع طويل تصطف على جوانبه مجموعة من المقاهى الممتدة بطول الشارع إلى آخره، تلك المقاهى التى تشهد لقاءات الأصدقاء كى يتحدثون فى الفن والمسرح، أطياف من البشر تتوافد على شارع الحبيب بورقيبة بمدينة تونس للاستمتاع ومشاهدة عروض مهرجان أيام قرطاج المسرحية حتى أصبح الشارع وكأنه مدينة كوزموبليتانية صغرى، فى تلك الأجواء المفعمة بالفن والإبداع لم يتوقف شارع الحبيب بورقيبة عن استقبال الوفود فهو نقطة التقاء المبدعين، حيث بنى مسرح خارجى مفتوح خصص لاستقبال عروض مسرح الشارع وعروض الموسيقى التراثية، لتضج تونس بالفن والموسيقى طوال فعاليات المهرجان وكأن هذا الشارع انقلب إلى ساحة كبرى متفجرة بالفنون على اختلاف تنوعها وخلفياتها الثقافية، يجمع المهرجان أنماطًا متعددة من الأعمال المسرحية وأنماطًا من ثقافات ودول لا تجمعهم حدود جغرافية بينما جمعهم الإبداع، ففى هذا المكان سوف تلتقى بألوان شتى من البشر سواء المشاركين بأعمالهم المسرحية ضمن فعالياته أو القادمين ضيوفًا عليه لمتابعة تلك الفعاليات المهمة غير المتكررة فى مهرجان مسرحى آخر.



يتميز شارع الحبيب بورقيبة باحتضانه لأكبر عدد من المسارح بتونس، هذه المسارح التى فطنت إلى ضرورة عقد لقاء حميمى بين البشر لتجاذب أطراف الأحاديث والمشاهدة المثمرة، ففى قرطاج لن تشاهد مجرد مشاهدة عابرة بل عليك أن تتحدث وتفكر فيما شاهدت، وبالتالى احتوت معظم مسارح تونس على عدد لا بأس به من المقاهى الملحقة بها لتسهيل سبل الود والتعارف بين الحضور، من هذه المسارح المميزة فى معمارها الفنى ومساحاتها المسرح البلدى الذى تجاوز عمره المائة عام، والذى يقع فى منتصف شارع الحبيب بورقيبة، مسرح سينما الريو، المونديال، الفن الرابع، قاعة ابن رشيق، قاعة ابن خلدون، مسرح سينما الحمرا، ثم تفرعت فعاليات المهرجان فى مسارح مجاورة لهذا الشارع المزدحم مثل مسرح التياترو، لارتيستو، المسرح الوطنى التونسي، وأخيرا مسرح مدينة الثقافة قاعة الأوبرا والذى يضم أكثر من قاعة مسرح بداخله.

حالة من المتعة الاستثنائية عاشها جمهور وضيوف مهرجان أيام قرطاج المسرحية فى دورته الخامسة والعشرين، متعة التسابق لحجز وحضور العروض المسرحية التى ازدحمت بالجماهير حتى امتلأت القاعات عن آخرها، ثم متعة لقاء المبدعين من دول عربية وإفريقية وأوروبية، لن تجد قاعة مسرح خالية من الجماهير وإذا كنت سيئ الحظ ولم تتمكن من حجز عروضك ذات الأولوية فى المشاهدة، لن تتمكن من إيجاد مقعد فارغ، وهو ما يعكس شيئًا غاية فى الأهمية، شدة وعى الجمهور التونسى من غير الممارسين للعملية الفنية.. بـ«المسرح» جمهور لديه فيض من الوعى بثقافة المشاهدة المسرحية على اختلاف نوعيات وأشكال العروض المشاركة، اختلاف لهجات ولغات متعددة، حرص الجماهير بشكل لافت وملحوظ  على حضور تلك العروض شديدة التنوع والاختلاف سواء عرض المسرح الصينى «عودة النجم» أو عروض المسرح الإفريقى وعروض الدول العربية والأوروبية، لن تجد موقعًا لقدم ولن تتمكن من الحجز إذا لم تسعَ للفوز بحجز عروضك مبكرًا، فهذا المهرجان الأضخم فى المنطقة العربية ترفع عروضه شعار كامل العدد، لكن ربما المأخذ الوحيد فى هذا السياق حدوث أزمة لعدم توفر ترجمة أحيانًا مع هذا التوافد الضخم على العروض، بعض الأعمال التى تحمل لغات مختلفة لم تضع ترجمة عربية أو إنجليزية وأحيانًا الفرنسية للعروض العربية وهو ما تعذر على الكثيرين التواصل مع عدد لا بأس به من عروض المهرجان!

«عودة النجم»

افتتح المهرجان فعالياته بالعرض الصينى «عودة النجم» الذى استعرض فيه صناعه مدى التطور التقنى والإجادة الفنية والإتقان فى ممارسة هذا التطور، لم يكن العمل مجرد عرض مسرحى درامى تقليدي، خلا من الدراما واعتمد على الفكرة وكيفية توظيف هذه الفكرة لاستعراض االتفوق التقنى والتفوق فى تقديم مشاهد جماعية شديدة الدقة والإتقان فى الأداء الحركى والصوتى لصناع العمل الفني، يقدم الفنان ليمى بونيفاسيو وهو الذى يعمل منذ ثلاثين عامًا على التعريف بثقافة مجتمعات السكان الأصليين حول العالم، يضع المشاهد فى حالة من الدهشة والحيرة بطرح فنى مختلف يمزج بين ثقافات الشعوب القديمة بالصين وتقديم أشكال طقسية كدعوة روحية للفكر والتأمل ومزجها بأشكال فنية معاصرة فى أسلوب وطريقة المعالجة الفنية التى اتجهت إلى استخدام تقنيات حديثة فى تصوير هذا النجم الذى من المنتظر عودته فى مشهد بديع شديد الإبهار والصعوبة فى التنفيذ، على خشبة المسرح نرى من وراء ستار شفاف رائد فضاء وكأنه اخترق حاجز الجاذبية الأرضية على المسرح، محلقًا ببطء فى هذا الفضاء الفسيح ومتحررًا من قانون الجاذبية الأرضية وكأن مشهد الصعود للفضاء تجسد حيًا على المسرح مما أثار إعجاب ودهشة الحضور بهذا العمل الفنى الذى يستعرض بشكل طقسى علاقة الإنسان بكوكب الأرض وبحثه عن الحياة فى عالم آخر ربما أبعد وأرحب من هذا الكوكب المزدحم بالبشر!

من عروض مسرح العالم قدم ضمن فعاليات المهرجان أيضا العرض المميز «ليزا المسكينة»

“ليزا المسكينة” أشبه بعروض الأوبرا العالمية التى تحتوى على قصص حب مأساوية بسيطة المضمون وعميقة المعنى لكنها تعتمد وبشكل أساسى على الحوار المغنى، شكل من أشكال المسرح الغنائى قدم المخرج الروسى مارك روزوفسكى اقتباسًا من قصة “ليزا الفقيرة” للكاتب الروسى نيكولاى كارامزينا وهى من كلاسيكيات الحب فى الأدب الروسى، تروى المسرحية قصة حب بين الفتاة ليزا الفلاحة الفقيرة وبين أحد النبلاء أرنست، يعيش الحبيبان حالة حب مفعمة بالأمل والرغبة واللهفة والشغف إلى أن يملها الحبيب، ويبدأ فى تغليب الفوارق الاجتماعية بينهما ويتراجع عن قراره فى الزواج بها، تنتحر ليزا فى نهاية العرض حزنًا على جحود حبيبها، تقدم هذه القصة الرومانسية القريبة من قصة روميو وجوليت لوليم شكسبير فى قالب غنائى بديع قام بتأدية هذه المقاطع الحوارية المغناة أبطال العرض فى عذوبة وبإبداع كبير، استمتع الجمهور بمتابعة هذا العمل الغنائى الموسيقى رغم فارق اللغة، إلا أن مقاطع الغناء باللغة الروسية لم تفقد الجمهور متعة الاستماع لمطربى العرض الذين تعددت أصواتهم وتدرجت درجاتها، اجتعموا معًا فى وحدة صوتية واحدة، شكلوا عملًا غنائيًا جماعيًا شديد الروعة والإتقان، كما حرص صنّاعه على ترجمة العرض بالكامل.

«حدود»

“حدود” قدم على خشبة المسرح الوطنى وهو إنتاج مشترك بين تونس وإيطاليا، عمل راقص يتناول فكرة مجموعة من البشر حاولوا التغلب على الحدود التى كان عليهم عبورها وما واجهه هؤلاء من تحديات فى البقاء أو العبور عبر حدود أبعد من الوطن فى تشكيلات حركية جماعية جمعت فى البداية بين الشاشة السينمائية والتى يعبر فيها الراقصون مناطق جبلية صخرية وكأنهم عابرون من مكان إلى آخر، ثم المساحة التى تم تخصيصها لهم من خشبة المسرح التى توسطت الجمهور والتى غطيت بالرمال، رقص عليها أبطال العمل بين تلك الرمال التى تشكل الأرض، قدّم الجميع تشكيلات حركية جماعية متنوعة، تعدد الأداء الحركى واختلف بين كل فرد، فلم يلتزم الجميع بحركة واحدة وكأنهم يجسدون الاختلاف الذى جمعهم معًا فى وحدة واحدة، عرض فنى متقن الصنع سواء فى الأداء الحركى أو الصوتى الذى لم يعتمد على الموسيقى التى تصاحب عروض الرقص التقليدية بينما غلف العمل شريط صوتى لوحشة الصحراء لتأكيد حالة التوهان والتصحر التى يشهدها العابرون من الحدود البعيدة!

«وجوه هيدى لامار»

فى هذا العمل تضع المخرجة والعرائسية كاى شوماخر الحياة الحالمة والدرامية لهيدفيغ كيلسر المعروفة بإسم هيدى لامار هذه الشابة النمساوية التى تمكنت من نحت مسيرة فنية فى هوليوود، حكاية امرأة متعددة الوجوه فهى أيقونة موضة وممثلة سينمائية وامرأة فاتنة وساحرة بوجهها الذى ليس له شبيه، وهى أيضا الضحية والوحش فى نفس الوقت وغالبًا ما كان يستهان بذكائها، هيدى لامار هى وجه وقناع وأحيانًا ملامح تخفى حقائق عن حياتها هكذا لخص صناع العمل فكرته.. من هذه الفلسفة انطلق العرض بين تحريك عروسة ضخمة أقرب للعروسة البشرية ترتديها البطلة أمام الجمهور مجسدة حركاتها وإيماءتها وكلامها وكأن تلك العروسة تحولت إلى كائن حى على خشبة المسرح ثم مجموعة من العرائس الصغيرة يتلاعب الممثل والممثلة بين التحريك والتمثيل والعزف الموسيقى وشاشة السينما فى خلفية المسرح لاستعراض مشاهد من حياة هيدى لامار فى دقة وإتقان بين اللعب بالعرائس والحوار، ربما كانت العروسة الكبرى الأشد لفتا للانتباه والأقوى أثرًا بالعرض، حيث تفننت البطلة فى تجسيد روحها بذكاء وإجادة عالية وكأنها جزء لا يتجزأ منها.

«غربة»

استعراض فنى مستوحى من العوالم الشعرية لتوماس اليوت الذى ترجم مشاعر الخوف الإنسانى فى عالم استهلاكى تخلى عن إنسانيته يجسد العمل يومًا من حياة شخص يعيش بالمدينة فى القرن الواحد والعشرين، حيث تقتصر حياة الأشخاص العاديين على العمل، حياة تتلخص فى المسافة التى يقطعونها بين البيت ومقر العمل، عالم بائس ومرعب تسيطر عليه النزعة الاستهلاكية فصار أشبه بكائن غريب شبيه بالإنسان ظاهريًا لكنه مجرد من العاطفة.. ارتدى أبطال العمل أقنعة متشابهة، يتحركون جميعا فى حركة آلية واحدة، يجتمعون ويفترقون على الأشياء فى تكالب أحيانًا على سرعة الإلحاق بشيء ما ربما يفوتهم، حالة مسرحية أقرب للهيستريا الجماعية لعمل شديد الخصوصية أحدثها هذا العمل الذى اعتمد على الأداء الحركى الميكانيكى الآلى بين أبطاله، وهذه الأقنعة المتوحدة اللافتة على خشبة المسرح المفتوح بشارع الحبيب بورقيبة، تحرك أبطال العمل بين الجماهير بهذه الهيئة الشكلية غير معلومة الملامح فجميعهم تلاشت ملامحهم وكأنهم أصبحوا شخصًا واحدًا يعانى تلك الحياة الاستهلاكية الطاحنة التى لا ترحم وتحول الجميع إلى كائنات ممسوخة متحركة فى قالب حركى واحد لا يتغير مجردين من المشاعر أو الملامح التى تميز البشر، رؤية فلسفية جسدت فى بساطة وإتقان بين جمهور المارة بالشارع دون الحاجة إلى مسرح أو تقنيات ضخمة كانت البطولة فى عمق الفكرة وبساطة تنفيذها.

كانت تلك لمحة سريعة عن عروض مسرح العالم التى شاركت ضمن فعاليات أيام قرطاج المسرحية فى دورته الخامسة والعشرين، لم يتوقف المهرجان عند هذه العروض بينما ازدحم جدوله بعروض مسرحية لا حصر لها سواء عروض المسابقة الرسمية التى تنوعت بين 12 عرضًا مسرحيًا من تونس ودول عربية شقيقة منها عروض “رقصة سماء” تونس، “البخارة” تونس، “العاشق” فلسطين، “اثنين بليل” لبنان، “بيت أبو عبد الله” العراق، “منطقة حرة” البنين، “طبيب بعد الموت” السنغال، “بين قلبين” قطر، “يا طالعين الجبل” الأردن، “لا فيكتوريا” المغرب، “كيف نسامحنا” الإمارات، “لعبة النهاية” مصر، تفاوت المستوى الفنى لعروض التسابق التى لم تكن معظمها على مستوى التوقعات، حيث تفوقت عروض خارج التسابق بالمهرجان سواء بالمسرح التونسى أو مسرح العالم على أغلب عروض المسابقة الرسمية.

ففى نفس السياق تعددت الفعاليات والأعمال المسرحية المشاركة التى لا تتسع المساحة لذكرها جميعًا، فلم تقتصر محاور المهرجان على مجرد عروض عالمية ومسابقة رسمية بل كانت له العديد من المحاور والمسارات الفنية التى انتصرت جميعها لتيمة المهرجان الأساسية “الفن مقاومة” و “مسرح للإنسانية” من هذه المحاور عروض مسرح الحرية “مسرح السجون” يهتم هذا المحور بشكل رئيسى بالإنتاج المتنوع لمسرح السجن من رجال ونساء وأطفال وهو المحور الذى تنفرد به تونس بمهرجانها المسرحى والذى يؤكد الدمج بين عناصر المجتمع وإعادة تأهيل وتقويم سلوكيات أفراده، ثم مسرح الإدماج “لذوى الاحتياجات الخاصة، والمسرح المدرسي، بالإضافة إلى العروض العربية والإفريقية.

رفع أيام قرطاج شعار الفن مقاومة مساندة للقضية الفلسطينية وما تعانيه لبنان، استنادًا لهذه التيمة التى تنتصر للإنسانية والمقاومة، تشعبت عروض المهرجان حول تناول قضايا إنسانية متعددة الأوجه، ثم عروض تناولت بشكل مباشر أزمة القضية الفلسطينية مثل العرض الفلسطينى “العاشق”، والعرض الأردنى “يا طالعين الجبل”، الأول كان احتفاء بأشعار وسيرة الشاعر محمود درويش، مزج العمل بين أشعاره وعرض مسارات لأزمنة وأماكن تركت بصمتها فى شعره مثل قرية البرودة، حيفا بيروت باريس والضفة، وكان السرد بالأداء التمثيلى والغنائى فى استعراض أصوات أبطال العمل شديدة القوة والعذوبة، “يا طالعين الجبل” جمع بين السرد الغنائى والحكى بالتمثيل والأداء الحركى لبطلة العمل، وكان لأصوات الأبطال والعزف الموسيقى الحى الحضور الأقوى بالعمل الفني، كما احتفى المهرجان بالمسرح السورى بتنظيم ندوة استعرضت تاريخه وصناعه وكرم المهرجان بحفل الختام الفنان دريد لحام أحد رواد المسرح السورى الذى تعذر حضوره يوم الحفل لأسباب خارجه عن إرادته، وشارك أيضًا ضمن فعاليات هذه الدورة من سوريا عرض “اللاجئان” للأخوين ملص وهو كوميديا سوداء جسدت العلاقة بين شخصين لجأ إلى فرنسا هربًا من بلديهما.