السبت 28 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«الأضحية».. وحضارة الفن المصرى

يرصدها:  أحمد رزق



يتمتع المصريون بالحس الدينى القوى وتمثل عاطفة العقيدة لديهم جزءًا أصيلًا من تكوينهم الفطرى والذى تأصل عبر العصور بمختلف الحضارات المتعاقبة على أرض مصر، فقبل عصور ما قبل الحضارات عرف المصريون الإله الواحد الأحد وخلدوا تفاصيل مظاهر الحياة الدينية بنقوش ورسوم على جدران المعابد ليتواصل أحفادهم فى العصور الحديثة مع حضاراتهم، لنجد تشابهًا كبيرًا بين فنونهم وفنون الأقدمين.

يكفى أن نعرف أن معبد الكرنك والمشيد بمدينة الأقصر أقدم معبد فى العالم وهو أقدم دار عبادة فى التاريخ والذى يضم 11 معبدًا تم بناؤها عبر مئات السنين شيده العديد من ملوك القدماء «توت عنخ آمون» و«حور محب» وسيتى الأول، كما أجرى «رمسيس الثانى» توسعات به، يتوسط المعبد البحيرة المقدسة والتى أقاموا بها المناسبات الدينية ورغم مرور آلاف السنين تظهر النقوش البارزة على معابد الكرنك والتى تمثل تقديم القرابين للآلهة بجانب النحت البارز لبطولات الملوك وفتوحاتهم العسكرية.

أما عن قدس الأقداس فهو الهيكل الذى يحيط به عدد من الغرف وبهوه المخصص لتتويج الملك أو الأعياد وتتلى به الصلوات وتذبح القرابين من إناث الكباش، وغرفة مخصصة لتقديم القرابين وفيها تقدم القرابين للمعبود ويوجد بها مذبح خاص لكى تذبح به الأضاحى وتقدم للمعبود - كان الكهنة يحرقون الطعام والذبائح لأن الإله لا يأكل - بعد ذلك تنقيح المصريون ذلك بتقديم الذبائح للمحتاجين، وهو ما يوضح التدين المنتشر بمصر القديمة والتى مثلتها دقة النقوش والرسوم وكثرتها على جدران معظم المعابد، والذى كان أوضحها وأجملها معبد الكرنك.

الفن القبطى كان له نصيب من الرسوم التى تعبر عن القرابين - الفن القبطى هو الفن الذى انتجه مسيحيو مصر بعد انتشار المسيحية بها فى القرن الرابع الميلادى وهو فن اعتمد على بساطة الفكرة واحتلال الرموز الدينية المساحة الكبرى فى التصاميم القبطية فيعتبر من أهم الفنون الشعبية والتى قدم فيها الفنان القبطى نقوشه وإبداعه بعيدًا عن السلطة السياسية فى العصر الرومانى بأقل كلفة وهى من أهم عناصر الفن فى مصر.

تعد فكرة «التضحية والفداء» من أهم الأسس التى تبنى عليها الشريعة المسيحية والتى تشترك فيها القصة الشهيرة لأبى الأنبياء «إبراهيم» وتضحيته بابنه والتى ذكرت بنفس التفاصيل فى «القرآن» و«التوراة» مع اختلاف اسم الابن فالمسلمون يعتقدون أنه نبى الله «إسماعيل» بينما يذكر فى التوراة ويعتقده المسيحيون أنه نبى الله «إسحق» إلا أن فكرة التضحية بـ«الكبش العظيم» تظل راسخة فى العقائد الثلاثه وهى ما تمثلت فى العديد من نقوش ورسوم الفن القبطى.

يذكر أن «الحمل» يرمز فى الفن المسيحى عمومًا بتضحية السيد المسيح من أجل خلاص العالم وهو الوصف التالى لتضحية إبراهيم لابنه ناداه ملاك الرب قائلًا: «تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا، فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ليصعد إبراهيم محرقه عوضًا عن ابنه».

وفى «القرآن» ذكر أنه عندما همّ إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل بعد أن «أسلما وتلّه الجبين نودىّ: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا» وقال الله فى كتابه: «وفديناه بذبح عظيم» أى كبش أقرن كبير الحجم.

بدوره كانت فكرة الفداء فكرة أصيلة لدى الفنان القبطى فنرى العديد من الجداريات التى تمثل «التضحية» والتى تنتشر بالأديرة المصرية: «دير أبومقار» بوادى النطرون والتى تشمل أكثر من نقش يمثل هذا الموضوع.

كما وجدت بعض التصاوير الجدارية بأديرة الأنبا أرميا بسقارة ودير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر.

الفن الشعبى

أبدع الفنان الفطرى المصرى بحسه الشعبى البسيط والمتميز برسومات دينية ونقوش والتى برزت على حوائط المنازل الخاصة بحجاج بيت الله الحرام والتى يخطط عليها بعد تجهيز أسطح الجدران ودهانها - غالبًا باللون السماوى أو الأصفر - ليبدأ بعدها فى إبداعه الجميل بألوان زاهية محددة غالبًا بخطوط سوداء لإبراز العناصر الموجودة بجداريته سواء العناصر البشرية أو الحيوانية والزهور والنباتات التى تتوسطها بناء «الكعبة» المشرفة والتى تعتبر رمزًا للحجيج بعبارات متداولة فى معظمها مثل «حج مبرور وذنب مغفور» و«رايحين للنبى الغالى»، ولعل أشهر الرسوم على جدران البيوت المصرية رسوم للجمل وهو وسيلة السفر الأولى لطريق الحج والتى كانت منتشرة فى العقود القليلة الماضية وتتطور بعد ذلك إلى رسم «الطائرة» التى تعلو النقوش على جوانب الحائط من زهور أو رسوم هندسية تحيط بلوحته الزاهية وأحيانا تجمع بين كل هذه العناصر معًا، وبالطبع فإن«موكب المحمل» من أشهر اللوحات التى رسمها المصريون والفنانون الأجانب الذين زاروا مصر فى عقود ماضية والتى تمثل فرحة المصريين بتجهيز «كسوة الكعبة» والتى أبدع «النساجون» المصريون فى تطريزها بزخارف إسلامية مذهبة - يوجد آخر نموذج لها بمتحف الحضارات بالقاهرة.

غالبًا ما يختار أهل «الحجاج» الرسوم التى يزين بها الفنان الشعبى جدران منازلهم - كل حسب بيئته وما تنتجه من زهور أو ما تشتهر به من صناعة وحرفة، والتى تنتشر فى أنحاء البلاد من أقصاها إلى أدناها مع الاحتفاظ ببعض السمات المشتركة بينهما مثل المركب والطائرة والجمل وبعض الآيات القرآنية والمأثورات الشعبية التى تحكى رحلة الحجيج بملابس الإحرام الشهيرة والتى يهتم بتصويرها الأهل.

إلى جانب ذلك تظهر صورة الأضحية فى بعض الجداريات والتى تصور القصة الشهيرة لتضحية نبى الله إبراهيم بابنه وفداء الله له بكبش عظيم وانتشار آية «ففديناه بذبح عظيم».. والتى تعد عقيدة راسخة للمصريين وفيها يضحى أغنياؤهم بالذبائح وتوزيع لحومها على غير القادرين سواء كانت أغنامًا أو أبقارًا.

الفن المصرى المعاصر

اهتم الفنان المصرى فى العصر الحديث والمعاصر بمظاهر الأعياد المصرية وأهمها عيد الأضحى المبارك والذى تنوعت أعمالهم الفنية فيه ما بين أساليب تعبيرية تشكيلية مختلفة ونرى أشهر الفنانين التشكيليين المصريين وأهمهم بأن سجلوا هذه المظاهر فى لوحاتهم لتظهر بشكل مباشر صور «الأضحيات» وأحيانًا أخرى يكتفى الفنان بتصوير مظاهر الفرحة فى الأعياد، منذ الرعيل الأول للتشكيليين المصريين وحتى المعاصرين الشباب لنجد يوسف كامل وعفت ناجى وسعد الخادم وجاذبية سرى وراغب عياد ومحمود سعيد وبيكار ليتواصل معهم بعد ذلك فنانون كبار مثل صلاح عنانى وخالد سرور ومن بعدهم سامى أبوالعزم وداليا نجم وغيرهم الكثير فى تصوير مظاهر البهجة والتضحية فى أيام الأعياد.

البهجة والفن صناعة مصرية

بنظرة بسيطة عابرة يظهر لنا براعة الفنان المصرى على مر العصور فى تصوير مشاعره الفياضة تجاه مظاهر الأعياد والتى تلتقى وتصب فى بوتقة واحدة وهى التمسك بالتقاليد الدينية والتى تواصل بها عبر الحضارات المتتابعة وما تمثله من قوة العاطفة الدينية لأبناء هذا الوطن الذى يمثل الإيمان بإله واحد ومعبود قدير يقدم له «القرابين» و«الأضحية» تعظيمًا وتقديرًا له ليكون بحق الفن والإبداع صناعة مصرية خالصة.