الخميس 21 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«جيش بلا عقيدة»

لأنه جيش بلا عقيدة فمع التورط أكثر فى مستنقع حرب بلا هدف ولا مبرر أخلاقى، يتكبد الجيش الإسرائيلى العديد من الخسائر فى صفوفه وعتاده، لكن أكثر ما يؤرق قادة الجيش الآن تفشى الأمراض النفسية بين الجنود، وارتفاع معدلات الانتحار إلى نسب غير معهودة مقارنة بأزمنة ما قبل الحرب، خاصة أن آخر إحصاء لهيئة البث الإسرائيلية «كان» حول معطيات حالات الانتحار بين الجنود بعد العودة من الحرب على قطاع غزة، أظهر أن هناك ارتفاعًا كبيرًا فى معدلات الانتحار، ووفقًا للبيانات فقد تم تسجيل 17 حالة خلال عام 2023، و21 حالة فى 2024، وحتى الآن فى 2025 تم تسجيل 16 حالة انتحار حتى الشهر الماضي، أى 54 حالة حتى الآن.



هناك إحصاء آخر يفيد بانتحار 21 جنديًا خلال العام الجارى، ما يرفع تلك الحصيلة غير الرسمية، وأشارت هيئة البث إلى أن تحقيقات الجيش أظهرت أن معظم حالات الانتحار مرتبطة بالحرب، ونجمت عن الظروف القاسية التى تعرض لها الجنود أثناء القتال، وفقدان الأصدقاء، وعدم القدرة على مواجهة الأحداث.

أكدت هيئة البث أن هناك مخاوف كبيرة وسط قادة الجيش من تفشى تلك الظاهرة بين الجنود، إلا أن هذا الإحصاء يخص الجنود الذين ما زالوا فى الخدمة، سواء الإلزامية أو الاحتياط، وهو يغفل أعداد المنتحرين ممن أنهوا خدمتهم العسكرية وأصبحوا مدنيين، حيث يرفض الجيش الإسرائيلى الاعتراف بهم كضحايا حرب.

وفى تقرير لها، ذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلى «جالى تساهل» أن هناك ارتفاعًا بعشرات النسب المئوية فى حالات انتحار الجنود خلال العام الجاري، فضلًا عن أن صحيفة «يديعوت أحرونوت» قالت إن الجيش الإسرائيلى يمتنع عن تقديم أرقام مُحدثة للانتحار باستثناء التحديث السنوي، لذا يصعب فهم حجم المشكلة، كما رفض الجيش نشر عدد حالات الانتحار هذا العام، ورفض الرد على أسئلة مجلة «تايم أوف إسرائيل».

«عقدة غزة»

وبشأن تقصى ظاهرة الانتحار، قالت صحيفة «زمان» إن هناك صلة بين انتحار الجنود والحرب الراهنة، وبحسب الدكتورة تاليا ميتال شوارتز- تييري، الأخصائية الاجتماعية فى جامعة بن جوريون: «من المستحيل قبول الادعاء بعدم وجود مثل هذه الصلة»، مؤكدة أن جزءًا كبيرًا من حالات الانتحار بين الجنود ينبع من ضائقة نفسية مرتبطة مباشرةً بخدمتهم فى الحرب، خاصًة فى غزة، لافتة إلى أنه قد تكون هناك عوامل خلفية أخرى دفعت هؤلاء الجنود إلى الانتحار، لكن الحرب حفّزت الأمر وأثرت عليهم بهذا القدر.

«أمراض نفسية»

وفى تقرير مفصل، كشفت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن ارتفاع كبير فى عدد الجنود الإسرائيليين الذين يعانون أزمات نفسية منذ بداية الحرب، بحسب ما نقلته عن مصادر بالجيش، ووفقًا لها، فإن هناك أكثر من 10 آلاف جندى يخضعون حاليًا للعلاج النفسي، فى ظل تصاعد ملحوظ فى حالات الاكتئاب والاضطرابات النفسية فى صفوف الجيش، خاصة بين الشباب.

وتابعت: إن نحو 3600 جندى أُصيبوا باضطراب ما بعد الصدمة، فى حين توجه 9 آلاف جندى آخر خلال عام 2024 إلى وزارة الجيش الإسرائيلية بطلب الاعتراف بهم كمصابين نفسيًا، ووفقًا للتقرير، فإن 18 ألف جندى أُصيبوا بإعاقات جسدية أو نفسية منذ بداية الحرب، ما ينذر بأزمة طويلة الأمد داخل صفوف الجيش.

وفى ظل غياب إحصاء رسمى عن مرضى الاضطرابات النفسية جراء الحرب، أشارت «يديعوت أحرونوت» إلى أن المستشفيات استقبلت منذ اندلاع الحرب نحو 19 ألف مصاب عسكري، من بينهم عدد كبير يعانى أزمات نفسية حادة، ناهيك عن أن مصادر رسمية أكدت أن التقديرات تشير إلى أن عدد المصابين النفسيين من الجنود والمدنيين قد يصل إلى 50 ألف شخص بحلول عام 2028، معظمهم ممن خاضوا الحرب فى غزة، وسيحتاجون إلى دعم نفسى بدرجات متفاوتة.

«الهروب من الخدمة»

مصادر أفادت بأن أكثر من 12 ألف جنديًا لم يتمكنوا من العودة إلى ساحة القتال بسبب الآثار النفسية التى خلفها القتال، ما يسلط الضوء على التحديات النفسية المتزايدة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية فى ظل استمرار الحرب، كذلك أعلن العديد من الجنود عدم العودة للخدمة «الاستدعاء» فى ظل استمرار الحرب على قطاع غزة دون وجود هدف واضح أو جدول زمنى لنهايتها.

وعن أسباب اضطرار الجنود للجوء إلى الانتحار وعصف الأمراض النفسية بهم، قال الدكتور هشام رامي، أستاذ الطب النفسى بجامعة عين شمس: إن هناك سببين وراء الاضطرابات النفسية وانتحار الجنود بالجيوش: أولهما: ما يعرف باضطراب كرب الصدمة، والثاني: الاكتئاب الدفين، موضحًا أن هناك جنودًا يعانون اضطراب «كرب الصدمة» وهو الاضطراب الذى يتعرض له الجنود فى الحروب جراء وفاة زملائهم أو مشاهدة فظائع ارتُكبت بحق المدنيين.

وأردف فى تصريحاته لـ«روزاليوسف»: بعضهم يصاب بهذا الاضطراب الذى يجعلهم غير قادرين على التخلص من تلك الذكريات الأليمة، ما يؤدى إلى نوع من «الاكتئاب الدفين»، الذى إذا لم يتم علاجه مع الوقت قد يؤدى إلى تمنى الموت والرغبة فى قتل الذات وينتهى إلى الانتحار، والأمر الآخر هو الإحساس بالذنب، فإذا كان الجندى يشعر أن ما فعله فى أى معركة هو خطأ أو تجنٍّ على حقوق الآخرين فيبدأ بالشعور بما يعرف فى الطب النفسى بـ «الذنب العميق»، الذى يتحول مع الوقت إلى «الاكتئاب الدفين» والانتحار.

«مقاوم ومعتدى»

وفيما يخص حالة السلام النفسى التى يتمتع بها المقاومون فى قطاع غزة، الذين لا يهابون آليات الاحتلال ويخرجون من الأنفاق ليعلنوا وجودهم ويقوموا بلصق العبوات الناسفة، وحالة الاضطراب التى يشعر بها الجندى المعتدي، قال رامي: كلما كان المقاتل مؤمنًا بقضية عادلة كلما اتسم بالصلابة والوقاية من الإحساس بالذنب لقناعته بأنه صاحب قضية عادلة وتقبله لكل ما يحدث حوله، مشددًا على أن ما يقى الإنسان من الشعور بالذنب العميق أو اضطراب «كرب الصدمة» مدى إيمانه بعدالة ما يقاتل من أجله، علاوة على أن تكرر حوادث الانتحار فى صفوف الجيش الإسرائيلى يضعف من معنويات زملائهم وتشعرهم بحدوث خطأ ما، وأن ما يجرى حولهم قد لا يكون «قضية عادلة» أو ليس «سلوكًا بشريًا سويًا».

«غياب الهدف الوطنى»

إضافة إلى الأسباب النفسية، التى تعد العامل الرئيسي، أوضح العميد سمير راغب، الخبير العسكرى والاستراتيجي، أن هناك عدة أسباب لانتحار الجنود أو الهروب من الالتحاق بالخدمة أو تلبية أوامر الاستدعاء، من بينها طول فترة العمليات فى بيئة معادية، وتعرض القوات للإصابة والقتل بمعدل يومي، مع غياب أفق واضح لنهايتها، وانعدام وجود هدف وطنى لتلك الحرب.

وتابع: هناك أسباب أخرى تتمثل فى فترة الاستدعاء الطويلة لقوات الاحتياط، التى تؤدى إلى فقد أعمالهم أو تعطل دراستهم، وتأثر أصحاب الأعمال الخاصة، مع عدم وجود سبيل للخروج الآمن من الاستدعاء، مشيرًا إلى أن الهروب من الاستدعاء يعرض الأفراد للمحاكمة العسكرية، كما أن الاستمرار فى المشاركة فى المعارك قد يؤدى إلى الإصابة «الإعاقة أو الموت»، أى أن المواطن الإسرائيلى أو الجندى يجد نفسه إما عالقًا فى ميدان القتال حالة الذهاب للحرب، أو يحاكم فى قاعة المحكمة حالة الامتناع، ما تسبب فى أمراض نفسية تدفع الجنود للانتحار للتخلص من الضغوط.

«ضعف المعنويات»

الخبير العسكرى والاستراتيجى شدد على أن «الروح المعنوية» من مكونات الكفاءة القتالية، وانخفاض الروح المعنوية ينعكس سلبًا على الأداء والكفاءة القتالية، واصفًا: «دون روح معنوية مرتفعة.. الجندى لن يسعى للمواجهة كثيرًا وسيحاول الاختباء من المواجهة»، منوهًا إلى أن انتحار الجنود يؤثر بالسلب على الروح المعنوية لباقى الجنود، إلا أن القوات العسكرية تواصل تنفيذ الأوامر، فضلًا عن أن حالات الانتحار والأزمات النفسية التى ضربت صفوف الجيش الإسرائيلى كانت مترافقة مع بدء العملية العسكرية على قطاع غزة.

راغب لفت إلى أن تلك الظاهرة ليست جديدة فى الجيوش، إذ تم تسجيل العديد من حالات الانتحار فى صفوف العديد من الجيوش، مثل الجيش الأمريكى فى العراق وأفغانستان، وأيضًا فى صفوف جيوش روسيا وأوكرانيا، كذلك فى حروب سابقة مثل حرب فيتنام، مضيفًا: «الجندى يمكن أن يكون منخرطًا فى الخدمة لفترة، لكنه قد يعانى الصدمة خلال المشاركة فى العمليات الحقيقية، وأن المشاركة فى عمليات القتال تزيد من الضغط العصبى على الأفراد ما يجعلهم قد يقدمون على الانتحار، والانتحار سلوك غير بشري، لأن الإنسان وُجد على غريزة البقاء ولا يميل إلى الانتحار إلا إذا حدث خلل نفسي».

بجانب التأثيرات النفسية، هناك تداعيات سياسية، وليست على المؤسسة العسكرية فقط، إذ إن هؤلاء الجنود «الاستدعاء» لهم أصوات فى الانتخابات، كذلك أسرهم التى تخشى على حياة ذويهم، الأمر الذى قد يؤدى إلى تغير مزاج الناخب من اليمين المتطرف إلى اليسار والوسط والتيار المعارض للعمليات العسكرية، معتبرًا أن حالات الانتحار قد تتضمن رسالة انتقام من السلطة، بأن الحكومة أو النظام الحاكم هو الذى دفعه للموت.

«مصر والقضايا العادلة»

وعن الاختلافات الأيديولوجية فى العقيدة العسكرية، قال: إنه بخلاف حروب إسرائيل، على سبيل المثال خاضت مصر حروبها من أجل قضايا عادلة، مشيرًا إلى أن الجنود المصريين فى حرب أكتوبر 1973 كانوا على قلب رجل واحد، إذ كان هناك هدف واضح وهو تحرير الأرض المحتلة، ولم يتم تسجيل أي حالات انتحار، بل على النقيض، كان الجميع يتسابق على المشاركة فى العمليات القتالية خلال فترة الاستنزاف وشن الغارات على القوات المعادية، قائلًا: «كان البعض يستاء حالة عدم المشاركة فى تلك العمليات». وشدد على أن مصر دائمًا وأبدًا كانت تخوض حروبها من أجل قضايا عادلة، بخلاف الجيش الإسرائيلي، مؤكدًا أن غزة لم تمثل يومًا أى تهديد على الكيان الإسرائيلي، لذا فإن الجنود الإسرائيليين يدركون أنهم يحاربون من أجل نتنياهو ومن أجل المتطرفين اليمينيين فى الحكومة، بل إن هناك العديد من التيارات فى إسرائيل، خاصة الليبرالية، وأغلبهم من الوافدين من الدول الغربية لا يريدون خوض حرب فى دولة جاءوا إليها من المهجر.