فاطمة اليوسف من عرش المسرح إلى عرش الصحافة
هند سلامة
سيدة المهام الصعبة واجهت الفقر والتعنت والتحدى للوصول إلى المقدمة فى مرحلة كان عنوانها اضطهاد واستبعاد المرأة من مجالات الحياة والوظائف الحيوية، أعياها البحث منذ نعومة أظافرها للوصول إلى منبر تعبّر فيه عن ذاتها وعن نفسها وعن رأيها كامرأة حرة فاعلة لها دور فى الحركة الفنية والثقافية والسياسية، دأب كبير عاشته فاطمة اليوسف برغم كل الصراعات والحروب التى واجهتها، مرة لأسباب تتعلق بنوعها كامرأة، وأخرى بسبب جرأتها وقوتها وصلابتها فى فرض رأيها وقول الحق أيًّا كانت العواقب أو النتائج، كان المسرح أول هذه المنابر الذى احتوى تلك السيدة لتجد فيه ضالتها ونفسها، تحولت من مجرد فتاة شاردة تراقبه من بعيد.. خجولة غير قادرة على المواجهة إلى البطلة الأولى فى فرقة «عزيز عيد»، فلم تشارك مجرد مشاركات عابرة بل كانت صاحبة حضور كبير بالمسرح المصرى فى أوج بداياته وازدهاره على يد عزيز عيد ونجيب الريحانى وجورج أبيض ويوسف وهبى.. قال عنها أستاذها عزيز عيد: «إنها ستكون أحسن ممثلة».
حكايتها مع المسرح
كيف تعرفت بأستاذها عزيز عيد؟
ننشر فى هذا العدد أجزاء ومقاطع من مذكرات السيدة فاطمة اليوسف.. أو صاحبة هذه الدار التى نتحدث من خلالها ونجلس بين جدرانها متبركين بهذه الذكرى العطرة ومفتونين ومحاولين استكمال مسيرة هذه السيدة فى بلاط صاحبة الجلالة المسيرة التى مر عليها اليوم 100 عام بالتمام، نتذكر ونستكمل مسيرتها فى صناعة صحافة حقيقية عنوانها الدقة والاستقلال.. طالعت مذكراتها التى أهدتها إلى ابنها إحسان عبدالقدوس.. كتبت فى مقدمتها.. «إليك يا بنى أهدى هذه الذكريات الناقصة».
كانت يتيمة الأب والأم، صبية صغيرة تذهب أحيانًا إلى مسرح «دار التمثيل العربى» الذى يقع بالقرب من محلات «صيدناوى»، تشاهد المسرحيات وتتابع أبطال هذه الحياة الغريبة التى تجرى أمام عينيها، كانت وقتها تحتل فرقة عبدالله عكاشة هذا المسرح بعد أن اعتزل الشيخ سلامة حجازى التمثيل، وتقدم روايات غنائية من نفس النوع، لم تكن هذه الفتاة الصغيرة تفهم شيئًا من هذا الذى يمثلونه، إنما هى معجبة مبهورة بهذه المناظر المزخرفة والأضواء الساطعة، بهذه الثياب التاريخية التى يلبسها الممثلون وأشرطة الذهب والفضة التى تتحلى بها الممثلات، هذا العالم الزاخر الخرافى من البطولات والمآسى والأحلام كان يبهرها، كانت تجلس ساعات تحدق فى المسرح ولا شىء يملأ خيالها إلا أن تلبس يومًا هذه الثياب العجيبة التى ترتديها الممثلات، وكان يحدث أحيانًا أن تترك مكانها فى الصالة لتتسلل إلى الكواليس، تقف عند هذا الحائط أو ذاك تحدق فى الممثلين والممثلات وهم يروحون ويجيئون، تحاول أن تتعلم طريقتهم فى الإلقاء الممطوط وتنغيم الكلمات وتتمنى لو أصبحت مثلهم تتحدث بالأشعار الرقيقة وتهتف بالكلمات الحماسية.
أول لقاء
كانت واقفة تائهة هكذا يومًا حين رآها الممثل الكبير «عمر وصفى» وكان عمر ضخما جدا عريض الصوت واسع العينين، معروفًا بنظراته المخيفة، رآها عمر وصفى فسدد إليها نظرة فاحصة جاحظة بعثت الرعدة فى أطرافها، انكمشت الفتاة فى الحائط كأنها تريد أن تدخل فيه واستمرت نظرة عمر وصفى إليها واستبد بها الرعب فانطلقت تجهش بالبكاء فى حرقة شديدة، ولم يتحرك عمر وصفى بل قطّب جبينه وصاح فيها بصوته الراعد.. «تعالى»!.. لم تتحرك الفتاة ولم تتوقف عن البكاء إلا أنها لمحت بين دموعها رجلًا آخر يدخل المكان قصيرًا قميئًا محدوب الظهر يضع على كتفيه معطفا عتيقا ما زالت تذكر لونه الأصفر الحائل إلى اليوم وفى عينيه كانت تطل طيبة وإنسانية عميقة عرفت فيما بعد أنه «عزيز عيد»، اقترب منها وقال لها: «مالك يا بنتى» فلم تجب وكرر عليها السؤال مرات وهى معتصمة بصمتها لا تجيب».
تحبس فى صدرها صوتها النحيف الهزيل، ثم أراد ان يستدرجها إلى الحديث فأخذ يحدثها عن الروايات والتمثيل ويسألها أى الروايات رأت، وبدأت الفتاة الصغيرة تتحدث وعزيز عيد يشجعها حتى استراحت إليه وشعرت وكأن هذا الرجل سيعوضها حنان الأبوة الذى حرمت منه..
فتاة صغيرة فى دور الجدة!
قررت الفرقة أن تقدم رواية اسمها «عواطف البنين» وعهدت بإخراجها إلى عزيز عيد وكانت الرواية تحتوى على ثلاثة أدوار نسائية البنت والأم والحفيدة.. وكانت الفرقة تضم ست ممثلات كلهن سوريات مسيحيات ألمظ ستاتى وأبريز ستاتى ومريم سماط ووردة ميلان وصالحة قاصين وكن جميعا فى سن الأربعين فما فوق، عهد المخرج بدور البنت إلى الأصغر سنا صالحة قاصين وبدور الأم إلى أبريز ستاتى وبقى دور الجدة العجوز فرفضن جميعا أن يمثلنه، رفضت كل واحدة منهن أن تبدو أمام الناس جدة عجوز وأمًّا لزميلاتها الأخريات، وعبثًا ذهبت محاولات عزيز عيد وصرخاته فيهن وأخيرًا صاح بأعلى صوته أتعرفون هذه الفتاة الصغيرة التى تزورنى هنا أحيانًا.. سوف أعطيها دور الجدة!!
بالفعل أسرع إليها يستدعيها وأخذ يعلمها أولًا كيف تنطق الكلام بصوت ضعيف وكيف تجعل صوتها يرتعد ويتهدج ثم أخذ يعلمها كيف تمشى على المسرح ليس كالفتيات الصغيرات بل بطيئة مثقلة متوكئة على عصا كالجدات العجوزات ثم علمها كيف تلقى ابنتها وكيف تحنو على حفيدتها فى الرواية، وكانت ابنتها فى الرواية تكبرها فى واقع الأمر بثلاثين عامًا تقريبًا! ثم جاء اليوم العصيب وبين ضحكات وتهريج الممثلات انهمك عزيز عيد يلبس تلميذته الثياب التاريخية الثقيلة ويضع لها المكياج أمّا هى فكانت فى عالم آخر يطن ويدور، وارتفع الستار دخلت الفتاة الصغيرة تمثل دور الجدة فى سن السبعين، وكان عزيز عيد نفسه أول من فوجئ بالنجاح الباهر، ومنذ تلك اللحظة بدأ ينظر إلى فتاته الصغيرة على أنها فنانة حقا، وكان من كلماته المأثورة، إننى لا أستطيع أن أجعل من الرصاص ذهبًا، ولكننى أستطيع أن أكتشف الذهب وأن أجعله لامعًا خلّابا!».. آمن عزيز عيد بنبوغ تلميذته فأخذ يعلمها بكل قواه أخذ يشترى لها الكتب لتقرأ وأحضر لها شيخا يلقنها دروسًا فى اللغة العربية نظير خمسين قرشا فى الشهر كان يدفعها من جيبه ثم إذا جلس معها يحدثها بالفرنسية حتى يعلمها هذه اللغة تدريجيًا..
فى محبة الأستاذ
لم تتخل عن مخرجها وأبيها الروحى عزيز عيد فى أحلك الظروف حيث كان ينتقل عيد بين الفرق المسرحية وأحيانًا لا يجد قوت يومه فلم تتركه هى وبعض من زملائها وفاء له وتنقلت معه بين فرق الريحانى، وجورج أبيض، وفرقة يوسف وهبى كان الأخير يريد أن ينشئ فرقة استعراضية لكن عزيز عيد وزكى طليمات ومختار عثمان أقنعوه بأن الخير فى إنشاء فرقة للروايات الدرامية تقدم روائع المسرح العالمى بعد ترجمتها وبدأ عزيز عيد فى جمع الممثلين وكان أولى هؤلاء تلك الممثلة الصغيرة الناشئة التى أصبحت راسخة القدم والبطلة الأولى للفرقة.
«غادة الكاميليا»
اضطر «عزيز عيد» لتقديم دور «الأب ديفال» فى مسرحية «غادة الكاميليا» وعلى الرغم من لونه الكوميدى وصوته الساخر كانا غير ملائمين لدور الأب ديفال وهو رجل وقور جليل إلا أننى أستطيع أن أؤكد أنه كان خير من لعب هذا الدور على المسرح وقد بلغ من إعجاز أدائه أن تلك الممثلة الناشئة وكانت قد أصبحت بطلة المسرح الأولى بكت بكاء حقيقيًا وهى تمثل أمامه دور «غادة الكاميليا» ذلك رغم رفضها لفكرة البكاء على المسرح بينما لم تستطع أن تتمالك نفسها أمام صدق أدائه لدور هذا الأب الحزين.. كان عزيز عيد متفقًا أن يحصل على خمسة فى المائة من صافى إيراد الفرقة فوق مرتبه الشهرى فلما اقتربت نهاية الموسم بدأ يطالب بنصيبه ويوسف وهبى يراوغ فى حين أن مسرحية «غادة الكاميليا وصلت أرباحها إلى 12 ألف جنيه بينما يؤكد يوسف وهبى أن الفرقة لا تكسب.. جن عزيز عيد وقرر أن يترك المسرح وأن يفقد عمله وراتبه وسكنه لكن الممثلة الأولى تدخلت لتسوية الخلاف وتهدئة الأعصاب.
لم تتوقف عن الحلم والإبداع قررت خوض معارك أخرى فى بلاط صاحبة الجلالة، إيماناً منها بأهمية دور الصحافة فى النقد الفنى البناء لعدم رضائها عن تناول الصحافة لاعمالها الفنية فى ذلك الوقت فأسست مجلة «روزاليوسف» التى بدأت فنية فى عددها الأول 25 أكتوبر 1925، والتى سرعان ما تحولت إلى مجلة سياسية لتتربع فاطمة اليوسف على عرش الصحافة.









