الحياة اليومية فى الحارة هى الفلكلور الحى الذى قد تغفل عنه الكتب فى بعض الأحيان
شيماء غنيم: لم أتخيل الشخصيات بصوت آخر غير العامية كأنهم يهمسون فى أذنى
حاورتها - رانيا هلال
فى فضاء السرد المصرى المعاصر، تبرز الكاتبة شيماء غنيم بصوت متفرّد يمزج بين الحس الشعبى والعمق الإنساني. من قلب الحارات القديمة وأزقة القاهرة، ولدت عوالمها الروائية التى تشهد عليها أعمال مثل «مشربية زهزهان» و»تحت الربع».
أعمالها ليست مجرد حكايات، بل محاولة لالتقاط الروح المراوغة للمكان والناس، حيث يختلط التاريخ بالأسطورة واليومى بالغرائبي. فى هذا الحوار، نقترب منها أكثر لنعرف كيف تصوغ رؤيتها للعالم بالكلمات، وكيف تتحول المشربية إلى نافذة مفتوحة على الذاكرة والخيال. حوار يأخذنا إلى الداخل، حيث الحكاية مرآة الحياة والكتابة فعل مقاومة للنسيان.
شيماء غنيم هى كاتبة شابة، وصلت روايتها الأولى غير المنشورة «أبواب نجية» إلى القائمة القصيرة لجائزة خيرى شلبى للرواية عام 2022 وصدر لها روايتان مع دار العين للنشر، رواية «رَبْع الرُّز» 2024 والتى وصلت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع المؤلف الشاب 2025. ورواية «مشربية زهزهان» خلال معرض القاهرة الدولى للكتاب 2025.
■ فى أكثر من حوار ذكرتِ ارتباطك بمكان القاهرة القديم؛ ما الذى جذبك تحديدًا إلى «ربع الرز» كموقع روائي، وكيف اخترت هذه الزاوية الزمنية والمكانية؟
- جذبنى رَبْع الرُّز بمجرد قراءتى عنه فى تقرير بإحدى المجلات، وكأنه يناديني. وأنا بطبيعتى تحدث لى هذه الجذبة فأمضى وراءها، وهذا ما حدث بالفعل. بدأت أفتش عنه وعن تاريخه والناس الذين عاشوا بين جدرانه، وكنت ألتقط أى كلمة أو إشارة عنه حتى فى أخبار الحوادث.
وحين تشبعت معرفتى بالمكان، جاء الزمن يخاطبنى أيضًا من بين صفحات المجلات ويفتح لى أبوابه، حين وجدت أخبارًا وتقارير عن المجتمع فى ظل أحداث سياسية واقتصادية ثقيلة، مع وجود الاحتلال. لكن تفاعل المصريين دائمًا له صدى مختلف، وهذا ما جذبني: كيف سيتفاعل الناس مع وفاة الزعيم الأكبر وسط أزماتهم الصغيرة الخاصة، ضمن المنظومة الكبرى؟
■ «ربع الرز» تبدو رحلة إلى هامش المدينة وصراعاتها الاجتماعية — كيف توازنين بين الرؤية التاريخية والوصف الشعبى حتى لا يتحول العمل إلى وثيقة تاريخية بحتة؟
- أهتم كثيرًا بالتاريخ الشعبى وأراه موازيًا للتاريخ الرسمي. هناك سؤال يلحّ على طوال الوقت: كيف تفاعل الناس مع الأحداث الكبرى؟ كيف عبّروا عنها فى أحاديثهم وجلساتهم الخاصة، وفى الأغانى والشعر؟ الأدب الشعبى مهم، وحين تتعمق فيه تتفاجأ بمدى اهتمام طبقة العامة بالتفاصيل الصغيرة. لذلك أحاول مع القراءة أن أكون حاضرة معهم، أنظر من زاويتهم الخاصة للأمور التى تتناسب مع أزمانهم، وليس مع الزمن الذى أعيش فيه، كى أستطيع فهم تفاعلاتهم وأحكامهم.
التمشيات تساعدنى كثيرًا فى اكتساب روح الحارة التى لا تتغير بتغير الزمن، وكأننى أتنفس من رئتها. ومع التاريخ الرسمى يكون الخيال حاضرًا ليرى تاريخ الناس الذى لم تكتبه الأقلام الرسمية.
■ فى «مشربية زهزهان» هناك حضور نسوى واضح وسرد لتاريخ الحارة من منظور المرأة؛ هل تعتبرين الرواية محاولة لإعادة كتابة التاريخ من منظور مختلف؟ وما المصادر التى اعتمدتِها؟
- أعتقد أن التاريخ الرسمى قد يغفل أحيانًا عن بعض التفاصيل الخاصة بالعامة والمهمشين؛ قد يكون ذلك عن عمد، أو تسقط هذه التفاصيل بين السطور فى زحام الأحداث الكبرى، التى يسيطر عليها دائمًا أصحاب السلطة أو تخضع لرؤية المؤرخ ومنظوره الخاص للأمور.
فى مشربية زهزهان حاولت التفتيش عن زاوية أخرى أروى بها ما حدث فى وقت عصيب مرت به البلاد: كيف أثرت المرأة وتركت بصمتها فى ظل صراع السلطة الذى يمتلكه الرجال دائمًا. المرأة التى شاهدت وعاصرت الأحداث، وكان لها تأثير مهم ووضعت بذرة لأخريات من بعدها ولدن من رحم التحدي، وحفرن أسماءهن فى التاريخ الرسمي، سواء فى نضالهن من أجل حرية بنات جنسهن أو من أجل المجتمع ككل.
استعنت بكتب عن الفترة الزمنية نفسها، وبكتب عن نضال المرأة المصرية والعادات والتقاليد.
■ يبدو أن اللغة واللهجة الشعبية مهمة بالنسبة لك؛ إلى أى مدى تتعاملين مع اللهجة كأداة فنية، ومتى تختارين الفصحى مقابل العامية؟
- بالتأكيد، اللهجة الشعبية بالنسبة لى ليست مجرد وسيلة للتزيين أو إضافة طابع محلي، بل هى أداة لفهم الشخصية والبيئة التى تتحرك فيها. أحيانًا كلمة واحدة باللهجة تحمل ما لا تستطيع عشر جمل بالفصحى أن توصله من إحساس وروح. أختار العامية حين تكون هى صوت الشخصية الطبيعي، وحين أريد أن أترك للقارئ إحساس الحميمية والتواصل المباشر، كما حدث فى رَبْع الرُّز؛ لم أتخيل الشخصيات بصوت آخر غير العامية، كأنهم يهمسون فى أذني.
أما الفصحى فهى حاضرة فى السرد دائمًا، وفى الحوار أفضّلها أحيانًا حين أحتاج إلى مسافة معينة بين الراوى والأحداث، أو حين يتطلب المشهد نبرة أكثر تأملًا. المزج بينهما أشبه بالعزف على أوتار مختلفة لنفس الآلة.
■ هل يمكنك وصف لحظة أو حدث من حياتك أو بحثك الأدبى غيّر طريقة رؤيتك للشخصيات أو الحبكة أثناء كتابة أى من الروايتين؟
- فى رَبْع الرُّز كنت أكتب عن الرؤية الشعبية تجاه المقامات والأساطير، وحدث أن ذهبت إلى شارع سوق العصر، حيث يقع الرَّبْع فى منطقة بولاق، وقابلت سيدة مسنّة تجاوزت الثمانين. حدثتنى عن قوة اعتقادهم فى سيدى سلامة الراضي، وأيضًا عن العفاريت التى تقطن الرَّبْع المجاور. من هنا جاءتنى فكرة الجن الذى يسكن الأرض، وغيرت رؤيتى لطبيعة العلاقة الروحية بين شخصية ستيتة الشحاذة وسيدى سلامة الراضي.
■ كيف تعاملتِ مع التوازن بين المشاهد الشخصية الصغيرة (الحياة اليومية) والمشاهد الكبرى (التاريخ/السياسة) فى كل رواية؟ أعطينا مشهدًا كمثال.
- أتعامل معهما كأنهما وجهان لعملة واحدة؛ فالتاريخ الكبير يتشكل من تراكم التفاصيل الصغيرة.
فى مشربية زهزهان مثلًا، هناك مشهد مرور موكب المحمل، وهو مشهد ذو أهمية تاريخية وسياسية واجتماعية لمكانة مصر وتفرّدها بهذا الشرف. فى الوقت نفسه، تسقط قطعة من كسوة الكعبة لتلتقطها أم سمير، فتكون شاهدة على إيمان الناس وتفاعلهم مع المعتقدات الروحية بطريقتهم الخاصة.
وأيضًا فى رَبْع الرُّز هناك مشهد وفاة سعد زغلول، والفرح الذى يتم فى صمت احترامًا لجنازة الزعيم الكبير. مشاهد كهذه قد تمر فى اللحظة الزمنية نفسها، حيث يلتقى التاريخ فى موكبه الرسمى مع إيمان العوام وهمومهم، لكن لكل منها وزنه الخاص.
■ هل تلجأين إلى مخططات مسبقة للحبكة أم تتعاملين مع سير الحكاية كما لو أنها تتكشف أثناء الكتابة؟ وهل كانت طريقة واحدة متبعة فى كل رواية؟
- نعم، فى الروايتين لجأت إلى مخططات مسبقة؛ أدون كل التفاصيل والخطوط العريضة واحتياجات كل شخصية، وما أريده من كل فصل، فى دفترى الخاص الذى يرافقنى أثناء الكتابة.
■ فى «مشربية زهزهان» توظفين عناصر من سرد الحارات والحمّامات والبيئة الشعبية - هل درستِ أشكالًا معينة من السرد الشعبى أو الفلكلور للاستلهام؟
- بالتأكيد مثلما أغوص داخل الكتب سواء كانت تاريخية أو أدب شعبى والسير، التى أعيش معها أكثر مما أعيش مع من حولي، فإن التفاعل مع الناس فى الحارات الشعبية له دور مهم كى أستوعب كل تفصيلة، ولو كانت صغيرة، وأهميتها فى الحياة اليومية. أن تجلسى طوال اليوم على مقهى شعبى فى حارة صغيرة وضيقة، تتابعين مرور الناس وطريقة حديثهم وعما يتحدثون، وأن تراقبى النساء فى الشبابيك والبلكونات، أو أن تذهبى إلى حمّام شعبى وتقضين يومًا كاملًا تتركين فيه العنان لروحك كى تتفاعل مع من حولها — كل هذه المشاهد مصدر إلهام حي.
فى النهاية، الحياة اليومية فى الحارة هى الفلكلور الحى الذى قد تغفل عنه الكتب فى بعض الأحيان.
■ بالنظر إلى تكرارك لموضوعات التاريخ الاجتماعي، ما هى حدود الحرية الإبداعية التى تضعينها لنفسك عند تناول أحداث تاريخية حساسة؟
- أرى أن للكاتب حرية واسعة فى إعادة تخيل الماضي. هناك أشكال كثيرة للحكي، وفرضيات مختلفة، ولكل منا رؤيته الخاصة للأحداث. بالنسبة لي، لا أحاول تغيير المعارك الكبرى أو الأحداث الرسمية، ولكن أشق لنفسى طريقًا موازيًا فى قلب هذه الأحداث، فى محاولة منى لفهم هذا العالم. فالناس — أو العوام — هم موضع اهتمامى وهمّى الذى يشغلني.
■ من ناحية الأسلوب: من هم الكتاب أو مصادر الأدب الشعبى التى أثرت فى كتابتك؟ وهل هناك مؤلفون تتخيلين قراءة أعمالك بجانبهم؟
- أنا أحب الأدب الاجتماعي، لكن بالتأكيد أقرأ فى مجالات متعددة. أتأثر بالسير الشعبية مثل سيرة الظاهر بيبرس وعلى الزيبق، وبروايات مثل ثلاثية نجيب محفوظ، وملحمة الحرافيش، وثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، وقصص غسان كنفاني، وألف شمس ساطعة لخالد الحسيني، والغرق لحمور زيادة، والملهاة الفلسطينية لإبراهيم نصر الله، وكل أعمال ماركيز.
■ بعد هاتين التجربتين مع دار العين، ما الخطوة التالية؟ هل تعملين على مشروع روائى آخر، أو تنوين التعمق فى بحث تاريخى أو كتابة قصص قصيرة أو مسرح؟ وما توقعاتك عن مستقبل سياقك الإبداعي؟
- أعمل حاليًا على مشروع روائى جديد يدور فى زمن أقدم، لكن أتعامل معه بروح السيرة الشعبية، حيث يتداخل الواقع مع الأسطورة.
أريد أن أواصل استكشاف المناطق التى يتقاطع فيها التاريخ مع أصوات المهمشين. مقاومة الخذلان والحفاظ على صوت الحكى الشعبى وأيضا أخوض مغامرات فى أماكن مختلفة. فالأماكن بالنسبة لى كائنات حية تتنفس ولها ذاكرتها ومنظورها الخاص.






