الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مشاهدات من انفجار مرفأ بيروت ـ المشاهدة السادسة

الجميلة جميلة

اللوحة - أحمد رزق
اللوحة - أحمد رزق

الطفلة جميلة كانت قد احتفلت بعامها الخامس فى ساحة الشهداء بوسط بيروت، بعد ان عاد والدها والدتها من احدى الدول الاوروبية للاستقرار فى لبنان، كانا يحلمان بوطن جميل لم يقدرا على فراقه، وقررا ان ابتنهما يجب ان تترعرع فيه فى مدنه وجباله وشواطئه وبين الاهل والاقارب والاصحاب، رغم ازدهار عملهما حيثما كانوا بتحضير وتوضيب الوجبات الغذائية الصحية وكانا قد حصلا على ترخيص للشركة الخاصة بهما، كانا يعتقدان بان وطنهما احق من اى بلد بالقدرات والافكار التى يتمتعان بها فعادا ولم يتصورا ما سيحمل لهما المستقبل القريب.



بعيد رجوع فريدة وعمر إلى لبنان فى العام 2019 بدأت حركة الاحتجاجات الغاضبة على تردى الاوضاع الاقتصادية والسياسية، ورغم عدم انتمائهما الحزبى قررا النزول إلى الشاع مع المتظاهرين منذ اليوم الاول وثالهما كان طفلتهم جكيلة أو جولي، كانا يفرحان بها عندما تتجول فى ساحات الاعتصام وهى تلوح بالعلم اللبناني، كانت تزرع الفرح والبهجة فى نفوس المتظاهرين الحانقين على الاوضاع وكانت تمدهم بجرعات متتالية من الأمل حتى اصبحت ايقونة حية جميلة لهم طيلة فترة التحركات لمطلبية فى الشارع.

فريدة وعمر كانا قد استاجرا شقة فى شارع بالقرب من المرفا وتحته استاجرا محلا للبدء بالتجارة الخاصة بهما، ورغم الضغوط الاقتصادية لكنهما استطاعا تدبير امورهما والبدء فى العمل بخطوات ثابتة، وكان المستقبل يبدو لهما ابيضا رغم المحيط القاتم، فجميلة وحدها كانت باعثا قويا لمستقبل جميل بضحكتها وذكائها وتصرفاتها الطفولية العفوية التى كانت تطغى على اى شيئ اخر، وطالما جلس عمر مع نفسه بجلسات مطولة لمحاسبة نفسه هل اخطئ بالعودة إلى وطنه، وهل عرض مستقبل عائلته للخطر، ولم يخطر بباله ان يسأل ان عرض عائلته للخطر.

كان عيد زواج فريدة وعمر فى الرابع من شهر اغسطس، فاستغل عمر فرصة ذهاب فريدة لزيارة صديقة لها وقام بإعداد احتفال عائلى بسيط جدا فى شقتهما، جهز كل شيء على الطاولة التى تضم ثلاثة اطباق وحولها ثلاثة كراسي، كان قد قرر بان يكون الاحتفال هذا العام مع الجميلة جميلة، قالب صغير من الجاتوه واطباق تحبها فريدة ومثلها لجميلة وشموع وبالونات وزينة جميلة بسيطة، نظف ورتب الشقة بانتظار وصول اجمل فتاتين فى حياته فريدة وجميلة، كان يحس بحب جارف نحوهما واعتقد او فكر بان الاحتفال هذا سيكون نوعا من التقدير والحب.

كان من المفترض ان تصلا إلى الشقة عند الساعة السادسة لاستغلال الوقت قبل ان يحين موعد نوم جميلة، لكن زحمة السير اخرت وصولهن إلى ما بعد هذه الساعة للأسف، فعند حصول الانفجار الكارثة كانتا لا تزالان فى الشارع بالقرب من الشقة، بعد ان ركنت فريدة السيارة فى المراب طارت هى وجميلة من ضغط الانفجار لعشرات الامتار، فريدة اصيبت اصابة بالغة وجميلة انتقلت إلى العالم الاخر فورا، عالم لا حقد ولا كراهية فيه مخصص لأمثالها من الاطفال رمز البراءة ضحايا حروب الكبار والبالغين.

عمر اصيب ببعض الرضوض والخدوش من الانفجار، ولملم شتات نفسه سريعا واتصل بفريدة، رن مرة واثنتين وتلاثة لكن دون مجيب، فتيقن من حدوث امر مكروه لهن، نزل إلى الشارع وبدا يفتش بين الجرحى المرميين فى الشارع واستمرت عملية بحثه لأكثر من ساعتين حتى اتاه اتصال من احد اصدقائه، والذى كان يعمل فى شركة قريبة من شقتهم بانه رأى فريدة مصابة وتم نقلها إلى أحد المستشفيات فى الطرف الآخر من العاصمة وانه لا يعلم شيئا عن جميلة، فذهب عمر فورا إلى المستشفى ليسأل عن زوجته ليتفاجأ بأنها ليست ضمن قائمة الجرحى بل فى قائمة القتلى، فلم يصدق ما قيل له وتوجه فورا إلى ثلاجة المستشفى للبحث عن رفيقة دربه، وفتح باب الثلاجة التى من المفترض أن تحتوى رفاة زوجته وحبيبته فوجدها دافئة وأحس بنفس ضعيف يصدر منها، فصرخ للأطباء والممرضين الذى هرعوا وفحصوها وتبين أنها لا تزال على قيد الحياة، فنقلوها إلى غرفة العناية الفائقة للبدء بعلاجها.

اطمئن عمر على حبيبته الأولى لكن بقيت الثانية، جميلة، واستمرت عملية البحث لأكثر من اثنتى عشر ساعة إلى أن عرف مكانها، وللأسف كانت قد نقلت من الشارع جثة هامدة لا روح فيها، فذهب وتأكد منها وعاد إلى زوجته والتى كانت قد استعادت وعيها قليلا واضطر للكذب عليها وقال ان جميلة تخضع للعلاج فى مستشفى آخر بعد اصابتها بجروح بسيطة جدا وذلك حتى لا تنتكس حالتها الصحية أكثر.

بعد ثلاثة أيام أصرت فريدة على رؤية جميلة ولو من خلال الفيديو كول، لكن عمر حاول المماطلة إلى ان اضطر لمصارحتها بالحقيقة، فعلا الصراخ ولبكاء، ودخلت فريدة بنوبة من الصراخ لم يوقفها إلا حقنة مهدئة صرح بها أحد الاطباء المتابعين لحالتها، وبعد ان استفاقت حدثها عمر بهدوء وشرح لها ما جرى.

بقيت جميلة فى ثلاجة المستشفى لأربعة ايام إلى أن أنهى عمر الإجراءات والترتيبات اللازمة للدفن، ولم يكن يعلم بأن قصة جميلة وموتها كضحية تحولت إلى رمز وطنى على مواقع التواصل الاجتماعي، وتفاجأ فى اليوم المحدد للدفن بمئات المواطنين الذى يحملون الورود وصور جميلة متجمعين أمام المستشفى ورافقوا الجثمان إلى بلدته الجنوبية حيث كان عدد آخر قد تجمع هناك أيضا، كان مشهد المأتم مهيبا، رفعت فيه الورود البيضاء وصور الفتاة الضحية خصوصا صورتها بساحة الشهداء خلال إحدى التظاهرات وهى تحمل العلم اللبنانى محاولة التلويح به رغم حجمه الكبير والجميل بهذه الصورة ضحكتها الملائكية التى تزين وجهها.

مرت الايام كان عمر وفريدة تائهين بكل ما من الكلمة من معنى، كان كل شيئ يذكرهما بحلمهما الجميل الذى ضاع وهو جميلة، ليس فقط المنزل بل الشوارع وساحات التظاهر والاعتصام وكل فكرة كانت تخطر ببالهما وكانت ابنتهما جزءا وركنا اساسيا منها، فقررا العودة إلى اوروبا فاقدين الأمل تماما بعد أن كانا مبعثا للامل فى الغد بالنسبة لكثيرين، كانا ايقونة جميلة لكن ما حصل حطمهما من الداخل تماما وظنا ان العودة إلى السفر والبقاء مدة فى الخارج ربما يداوى الجرح الكبير الذى اصابهما معا، فالجروح التى اصيبا بها خلال الانفجار ستمحى اثارها مع الوقت لكن الجرح الاكبر سيبقى لفترة طويلة وربما لاخر العمر، قرر عمر بيع قطعة من الارض كان قد ورثها عن والده بالاضافة إلى بعض المقتنيات لكن واجهته مشكلة اخرى، فلا احد قادر على دفع المال مقابل ما يريد ان يبيعه، فالمصارف لا تصرف للمواطنين اى مبلغ من مدخراتهم باستثناء مبالغ بسيطة كل شهر، وحاول البعض استغلال الامر بعرض دفع مبلغ اقل من نصف السعر الاساسى لكن عمر رفض، فاتفق مع احد اقاربه بان يتولى رعاية الاملاك ويتصرف بها كما يشاء ان كان بالسكن واستغلالها او تاجيرها وووكله بالامر رسميا بموجب توكيل رسمي، وكانت هذه الخطوة كمساحة امل فى قلب عمر لعله يعود يوما إلى بلده ولديه ارض خاصة به وسقف ياويه.

عاد عمر وفريدة إلى حياتهما الرتيبة فى العاصمة الاوروبية، بقيا لثلاثة أشهر تقريبا يمارسان عاداتهما اليومية من عمل ومحاولة التصرف بشكل طبيعي، لكن السواد كان مسيطرا عليهما رغم الجهد الذى بذلاه، وخلال تواجده باحد الايام فى مقر عمله قرر عمر فجاة العودة إلى لبنان فترك عمله وذهب إلى منزله ليتشاور مع فريدة عن امكانية العودة إلى بيروت، ففتح الباب مندفعا نحوها فصدمه ما شاهده، كانت تجلس على كرسى وبجانبها حقائب السفر، كانت هى الاخرى قررت العودة فقبلها دون اى كلام واجرى اتصالاته ورتب رحلة العودة إلى بيروت فى اليوم التالى ليكملا ما بدآه معا فى الوقت نفسه قريبين من جميلتهما جميلة على أمل بحياة قادمة جميلة رغم الدمار والاوضاع الصعبة التى ستقابلهما.