البوهى: أكتب مشروعـًا طويلًا محوره الوطن
تغريد الصبان
حوار – تغريد الصبان
الوطن هو الهم الأول للقاص والباحث محمد سامى البوهي، الذى يشتبك مع هموم أهله من مدينة دمياط واحلامهم التى هى أحلام كل المصريين عبر شخوصه الأدبية التى يخلقها على صفحات رواياته وقصصه القصيرة، وهى عشقه الأول والتى حصل عنها على العديد من الجوائز الأدبية، أصدر مؤخرا متواليته القصصية «الرئيس لا يأكلها تفاحا» لتثير جدلا بين النقاد حول طبيعتها التى تميل نحو الفانتازيا أم أنها سخرية من الواقع، بعد عدة أعمال أدبية تنوعت ما بين القصة والرواية منها «لوزات الجليد» و«رائحة الخشب» و«بلوتوث» و«سكترما»، عن رؤيته ومشروعه الأدبى يتحدث البوهى فى السطور التالية
■ لماذا إصرارك على الإقامة بدمياط بعيدا عن العاصمة؟
- لا أستطيع الحياة فى بلد بلا بحر... حتى حين سافرت إلى الخليج، كنت مرتبطا بالبحر، رغم أن اشتياقى لبحر دمياط كان يشعرنى بغربة مؤلمة وغصة غريبة، كما أن دمياط بلد مبدع بحكم طبيعة اهلها وعلاقتهم بالبيئة، أهم ما فى دمياط أنها غير مزدحمة والتى تصيبنى بالتوتر.
■ أعمالك دائما ما تحمل عناوين رمزية بشكل عصري، لماذا التأكيد على الرمزية؟
- ربما العناوين لها استراتيجية خاصة لكن معظم أعمالى واقعية، هذه الاستراتيجية تعتمد على شيئين الافتكاسة التجارية وملاءمة العنوان لذوق القارئ الحديث لسحبه إلى العمل،حيث أننى اكتب بأسلوب حداثى فى نمط كلاسيكى أحاول بقدر الامكان الامساك بالعصا من المنتصف. والتى ابتعدت عن الواقعية لكنك اتجهت الى عالم الرمز والفانتاويا فى متتاليتك القصصية «الرئيس لا يأكلها تفاحا».
هى حالة خاصة..رغم اننى اعتبرها واقعية وليست فانتازيا لانها تعكس الواقع الهزلى الذى نعيشه بعد الثورة واقع غير منطقى بالمرة لا هو خيالى ولا هو واقعى بل يشبه الاحدب، واقع مشوه..جدا.. يصنع ابطالا من ورق.
■ ولماذا اعتبرها بعض المتخصصين من عالم الفانتازيا؟
- لأنهم تعاملوا معها بنظرة أكاديمية ..لاننا بعد لم نستوعب هزلية هذا الواقع الغريب الذى نعيشه..ولن نصدقه ابدا إلا بعد ان نخرج منه وتعود الصورة معدولة.. عندما فكرت أن اكتبها لم أجد ما أعبر به عن حالنا الا بهذا الاسلوب الغريب، فقد كتب بورشرت «سن الأسد» بفانتازيا حكيمة رغم انها كانت تغبر عن مآسى الحرب العالمية الثانية ولم ينتبه لها القراء الا بعد انتهاء الحرب لانهم تعاملوا معها بنظرة اكاديمية، فالتعبير عن الحدث الآنى صعب جدا ..ولا يمكن ان نأخذه بمحمل الجد، لصعوبة توثيقه فهو حدث ساخن لايمكن ابتلاعه الا اذا تركناه يبرد، لذلك تحايلت عليه لاعبر عنه بهذا الاسلوب، كل ما اكتبه اخطه بثلاثة خطوط خط الماضى والحاضر والمستقبل، فلايمكن كتابة الواقع منفصلا عن تلك الخطوط، رغم أن خط المستقبل يكون مجرد شخبطة غير واضحة لكنها غواية رائعة عندما نستشرق المستقبل، ولكن الامر يحتاج إلى قراءة عميقة للماضى والمستقبل حتى تصدق نبوءتك.
■ إذن فأنت تعتمد على عامل الزمن وإعادة قراءة أعمالك مرة أخرى لفهمها أكثر؟
- انا اكتب مشروعا طويلا محوره الوطن، والكتابة عن الوطن تحتاج الى تقنيات حساسة، دائما ما أضع فى حسبانى أننى سأحاكم من الأجيال اذا وقعت فى مأزق يخالف المفهوم الثابت للوطن، لذلك أرصد الواقع كما هو، دون تدخل، لكننى أغزله فى شكل روائي.
■ لذلك تلجأ دوما للتجريب فى كتابتك الأدبية لاسيما القصة القصيرة التى تعيد بناء السرد فيها بتقنيات غير تقليدية؟
- القصة القصيرة لا تنفصل عنى ابدا لذلك اكتب الرواية بتقنية المشهد المنتهي، لكن القصة القصيرة هى مساحة محدودة لا تحتمل الإسهاب، لذا اعتمد فيها على التجريد، كمن يصنع قطعة من خزف ويبدع صنعها، لكن النظرة اليها محدودة اما الرواية فهى صناعة مدينة كاملة ..بل مدنا، فهى تعطينى مساحة اوفر للنقل لذلك معظم رواياتى واقعية، «أوطان بلون الفراولة» تعكس واقعنا بعد حرب الخليج، «سكترما» ترصد واقعنا قبل الثورة وتنبأت بها، لكن الرواية يصعب تجريدها الا اذا كانت رواية من أجل المتعة أو الإسقاط، أظن ان الاسقاط هو موضة وانتهت خاصة بعد الثورات التى جعلتنا نتجرأ على كل شئ
■ هل «التفاح» يرمز إلى فكرة خروج الرئيس من جنة الحكم؟
- فعلا.. يرمز لذلك..وفيها تنظير مع قصة آدم عليه السلام، ولأن التفاح هو رمز للارستقراطية، التى ربما يزهدها من يعيش فيها.
■ هل ترى المصريين اليوم يقدمون «التفاح» لرؤسائهم؟
- المصريون حاليا لا يقدمون أى شيء، فالثورة لها أصولها، التى لا حياد عنها، إذا اختلت تلك الأصول فلا وجود لثورة، لذلك المصريون يختارون ما أجبروا على اختياره، كمن يضع سؤالا لتختار الإجابة عليه، على الرغم من أنه لا يوجد إلا خيار واحد، فنحن نضحك على أنفسنا، كما قلت فى «سكترما» الثورة بدون قائد هى لعبة أطفال، فمن يقوم بالثورة هو من يحكم، غير ذلك فهى مجرد فروض حبرية وتختار من بينها، ولا توجد فرصة لاختيارات اخرى غير اذعانك التام لتلك الفروض.
■ لديك تجريب واضح فى استخدام اللغة.. ما حدود التجريب وإعادة بناء تراكيب اللغة واستنباط مفردات جديدة؟
- التجريب تقنية رائعة لكن اذا استخدمت فى بشكل هادف وغير مغرق، فالقارئ اليوم هو قارئ سريع، سبق قارئ الجريدة اليومية، فلا طاقة له للفحص والتمحيص واستخراج ما يرمى اليه الكاتب، لذلك لا مانع من التجريب فى إطار واقعي، من الممكن أن أقدم للقارئ تشكيلة رائعة من كل التقنيات فى عمل واحد..لكن المهم هو اختيار الموضوع ..فاللغة اصبحت وسيلة وليست متعة ..كوعاء ناقل فقط لذلك نجد انتشار العامية ..حتى فى اعمال قدر لها ان تفوز بجوائز كالبوكر وهنا اقصد «الفيل الأزرق»، لكن ما اجمل لغة المقاهى التى كتب بها نزار قبانى و محمود درويش، أو اللغة الثالثة التى كتب بها توفيق الحكيم كما سبق الجاحظ عصره بالكتابة بها خاصة فى رسائله، لكن اللغة التقليدية الجامدة ليس لها نصيب، لذلك لابد وان يضع الكاتب نصب عينيه موضة اللغة مع عدم الاخلال بها، فإن لم تحترمها لا تحفظ عملك حتى لو فاز بنوبل.
■ انت من الكتاب الشباب القلائل المهتم بكتابة القصة فى حين ان الاتجاه قوى نحو الرواية واصبحت القصة القصيرة فى عزلة عن الحركة الأدبية، فما وجهة نظرك؟
- السوق التجاريه فرضن نفسها ومن ثم دور النشر.. كما القصة القصيرة تحتاج الى إيقاع هادئ بخلاف ما نعانيه الآن من احداث تحتاج الى وعاء كبير يستوعبها كالرواية، ناهيك عن المسابقات التى تخصص جوائزها للرواية، كذلك هناك من يكتب الآن وعينيه على السينما والتليفزيون، وهذا ما لا يتوفر فى القصة القصيرة، مع العلم أن «قنديل أم هاشم» و«البوسطجي» فضيات قصيرتان تحولت الى أعمال سينمائية، لكن الأمر أصبح يتعلق بالماديات فى المرتبة الأولى ولا عزاء للإبداع.
■ هل كثرة الجوائز التى حصلت عليها قصصك القصيرة هى من شجعك على الاستمرار فيها؟
- لا.. لكنى كنت عاهدت نفسى على الالتزام بهذا اللون..ولم اتخيل ان اكتب رواية فى حياتي..لكن فجأة وجدت اننى اكتب الرواية واستمتع بكتابتها، فالرواية صديق تطول مصادقته وعشرته حتى انك تشعرين بحزن مع انتهاء الرواية لانك ستفارقين شخصياتها.
■ كيف تقرر أن تجسد فكرتك فى قالب الرواية أو القصة القصيرة؟
- عندما أقرر أن أتخلى عن فكرة الموت اكتب رواية ..لان الرواية تمنحك أمل لمواصلة الحياة بل وحرصك عليها حتى تنتهي، فانك تعانى بعدها من لحظات اكتئاب شديدة لا يزيلها الا الكتابة، أما القصة القصيرة فهى فكرة لحوحة أرادت ان تتنفس سريعا وتخرج للدنيا فتكتبها لمجرد لقطة سريعة.
■ من تقنياتك التجريبية اعتمادك على المشهدية فى السرد وكأنك تؤطر الأحداث لتكون مكتملة الأبعاد، لماذا هذا الجهد الكبير بينما تمتاز الرواية فى التصوير الأفقى للأحداث عبر تتابعها؟
- لأننى اكتب حقائق واخوض التجربة بناءً عن قضية .. فسكترما ناقشت قضية التطبيع مع اسرائيل وحوت شخصيات حقيقية.. واوطان بلون الفراولة عى ايضا رواية واقعية .. والكتابة عن الحقائق تحتاج الى الكتابة المستغرضة كى لا تخل باهميتها..اما الكتابة الافقية فهى تناسب الحكاية الخيالية التى تسير بترتيب، اما الواقع فهو يضاهى الفوضى الخلاقة التى يتم تركيبها كالـ «بازل» لتظهر الصورة مكتملة، لانها تحوى وجهة نظر.
■ ما حدود استفادتك من التاريخ فى كتاباتك الأدبية؟
- أنا عاشق للتاريخ، فهو الحكاية الكبرى لاى وطن..ولكنى ارصد التاريخ من نافذتى الخاصة، وأتحايل على صرامته بالابداع، فالتاريخ انك تكتب ما يشاء القدر ومخالفته خيانة، والتاريخ عندى هو حكايات ابى لي، أطوعها من اتساقها مع مفهومى منذ الطفولة و استفيد منها فى العمل، فوالدى عاصر عهد «عبد الناصر» وحارب فى 1973، أما جدى فعاصر الحرب العالمية الأولى والثانية وعاش فى عهد الرؤساء الثلاثة، لكن قراءتى للتاريخ لا تمس وجداني، بخلاف الحكايات التاريخية التى تحوى تجارب شخصية لاقاربى وان كنت اعتمد احيانا على الموروث الشعبي.
■ كثير من اﻷدباء يرى انه حين يكتب فى الصحافة فهى تأخذ من مخزونه اﻷدبى شحنته فما رأيك؟
- صحيح.. الصحافة تجرد الاديب من لغته الجميلة وتحولها الى لغة مقالية ..كذلك تشتت التفكير جدا وتصرفه عن مواصلة التفكير الابداعي.. لكنها عيوب عارضة تزول بزوال السبب، فمكن من خلال الصحافة أن أتزود بمعلومات تفيدتى فى العمل الأدبي.
■ كيف تزيل السبب؟
- أعتقد أن السبب فى تدنى اللغة الصحفية التى أصبحت سريعة ومتلاحقة، من الممكن ان تعقدى مقارنة بين عدد اى جريدة يصدر غدا وجريدة صدرت منذ 20 عاما ستلاحظين الفرق، إننا فى زمن المسخ.
■ العاصمة هى المركز الرئيسى لمصر ولكن بدأت دور نشر تظهر فى اﻷقاليم، هل هذا تمدد حقيقى أم انها مجرد محاوﻻت فردية؟
- كل دور النشر فى مصر على الاطلاق هى مجرد دكاكين، سواء فى العاصمة او غيرها، الناشر فقد مهمته وفضل لعبة التجارة، هناك احتماليان لظهور دور النشر فى الأقاليم، إما لتعرض أصحاب دار النشر لعملية نصب فقرر بعدها فتح دار نشر او بسبب البطالة ..فاتحاد الناشرين هو مجرد حبر على ورق.. ومعظم جهات النشر ما هى الا خدعة تبدأ بـ»البيست سيلر» وتنتهى بالحجج الواهية من ارتفاع الخامات وركود السوق وغيرها.
■ هل عنصر المفارقة والسخرية تيمة رئيسية لمشروعك اﻷدبي؟
- لا ابدا، انا اكتب كما نمر واعيش..وكما نحيا..لا أنسى شخوصى من الطعام والشراب ولا انساهم من الضحك والبكاء..فتلك طبائع انسانية يجب أن ويسوقها الكاتب فى عمله، فلابد وان يعى ان لشخوصه احتياجات اذا لم يلبها يفقد مصداقيته، فلا يعقل أن يظل بطل القصة مستيقظا طوال أحداث الرواية نوم او أكل أو شرب مستيقظا أثناء الأحداث.
■ كيف تصف الحركة الثقافية باﻷقاليم؟
- يخرج الميت من الحى ومخرج الحى من الميت، فعلى المستوى الحكومى المتمثل فى قصور الثقافة و المكتبات هى مجرد حركة جهوية يقودها قطيع من الموظفين، أما على المستوى الخاص فهى مجرد محاولات، ماتت مع تعلقها بالسياسة.
■ ما آخر أبحاثك اﻷدبية؟
- اكتب حاليا رواية جديدة انسانية عنوانها «الأسماك تضيء أيضا».
■ ما أهم ملامحها؟
- تتناول حياة اهل السواحل وعمال الفنارات والمراكب والسفن، وقانون البحر، وتتوغل فى مجتمع مائى روحه معلق بين السماء والماء والملح، تتعلق آمالهم بالنور والطريق، فإذا غاب النور كثر الرزق، لأن الصيادين يثمر صيدهم مع غياب القمر، وتتعلق أحلامهم بالطريق الذى يسوقون من خلاله بضاعتهم، فالقوارب منازلهم، وقبورهم على جزر صغيرة منسية، حاولت أن اقترب منهم، كى أقول بأننا يمكن ان نعيش بلا ثورة، طالما هناك من يعيش وأمله كله معلق بثورة النور والطبيعة من أجل الرزق.