الجمعة 12 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
لغة الجينات 75

لغة الجينات 75

«معاهم معاهم.. عليهم عليهم.. قول شعبى معروف يختصر حياة بعض أصحاب الجينات الخبيثة ممن يطلق عليهم «الإمعة».



«الإمعة» فى الظاهر دبلوماسى.. يحاول طوال الوقت إرضاء الجميع.. لا يقول رأيًا واضحًا.. ممسكًا العصى من الوسط..يتقرب من كل الناس فى كل الاتجاهات  وفى الباطن تافه.. يعبد مصلحته.. لا رأى له ولا مبدأ، منافق، ومصلحته فوق كل شىء، يجامل الناس جميعًا، يتلون كالحرباء.. انتهازى ويدمن الاصطياد فى الماء العكر.

«الإمعة» شخص طفيلى لا رأى واضح له، تابع ذليل لغيره حتى  تتحقق مصلحته الشخصية..فإذا تحقق له ما يريد، ينقلب فى لحظة  ضبعا ينهش فى كل من ساعده ومد له يد العون.. يميل مع الريح حيث تميل، وحينما تختلف الآراء والمواقف فإن «الإمعة» يزيدها خلافًا وتعقيدًا لأنه يشى للطرفين ويوقع بينهما العداوة والخصومة ثم إنه يوهم الجميع ويخدعهم بأنه مع الجميع ليحفظ لنفسه خط الرجعة.

أما «صاحب الجينات الأصلية» فهو سيد نفسه.. صاحب مبدأ لايلين.. لا يباع ولا يشترى.. من هؤلاء الشيخ «محمد أبوالعلا الخلفاوى» والذى درس فى الأزهر طالبًا وتخرج فيه، وعمل به، وظل يترقى إلى أن أصبح مفتيًا لمجلس الأحكام، وهو من أكبر المناصب القضائية فى زمنه.

«الشيخ الخلفاوى» فى الظاهر صاحب منصب كبير يستطيع من خلاله تحقيق كل مايريد.. من خلاله يستطيع أن يحصل على منافع عديدة تريحه من عناء سنوات طويلة قضاها فى قريته بالمنوفية وطالبًا فى الأزهر يعيش على حد الكفاف.. وفى الباطن رجل  مبدأ.. وطنه أغلى عنده من كل المناصب والمنافع.. رغم  تجاوزه الستين  من عمره ساند بقوة الثورة العرابية مضحيًا بكل شىء.. المنصب الكبير والدخل الثابت... وكان من أبرز المؤيدين لها والمدافعين عنها.

«الشيخ الخلفاوى» فى الظاهر كان يمكن أن يمسك العصى من الوسط.. يحقق منافع لا حصر لها فالطرفان يثقان به ويستمعان إلى رأيه «الخديو توفيق من جانب.. وأحمد عرابى من جانب آخر.. لكن فى الباطن حسمت الجينات الأصلية الأمر فى قلب الشيخ الجليل.. وعندما تأزم الموقف بين الثوار والخديو توفيق، بسبب قبول الخديو  للإنذار النهائى الذى قدمته إنجلترا وفرنسا.. وطالبتا فيه بنفى عرابى وزملائه٬ كان أبوالعلا الخلفاوى من أعلى الأصوات التى اعترضت على موقف الخديو وواجهته بشجاعة.  

«الخديو توفيق» فى الظاهر حاول تدارك الموقف ودعا فى 27 مايو 1882 الشيخ الخلفاوى والشيخ محمد عليش شيخ الأزهر، والشيخ حسن العدوى، وعلماء آخرين وكبار ضباط الجيش والسياسيين السابقين لاجتماع كبير فى سراى الإسماعيلية ليشرح لهم مبررات قبوله الإنذار.. وفى الباطن كان يخطط للحصول على دعمهم وتأييدهم.. وبعد أن شرح الموقف قال: «إن الظروف اقتضت استقالة الوزارة وقبول إنذار الدولتين.. وقد حفظت لنفسى رئاسة الجهادية وإدارة المصالح لحين تشكيل وزارة جديدة».. احتج الحاضرون على تصرف الخديو، وأعلن اللواء «طلبة باشا عصمت» - كان وقتها قائدًا للقوات المصرية المتواجدة فى دمياط أثناء الثورة العرابية ونائبًا للزعيم أحمد عرابى ـ أن الجهادية ترفض أى رئيس خلاف عرابى... وتكلم الشيخ الخلفاوى  فاقترح رفض طلبات إنجلترا وفرنسا والمطالبة بخروج الأساطيل الحربية الأجنبية من المياه المصرية.. وإعلان المقاومة.. ماطل الخديو توفيق فى الاستجابة فانسحب «طلبة باشا عصمت» احتجاجًا على مماطلة  الخديو وانسحب معه الحاضرون من ضباط ومشايخ.

فى الظاهر انتهى الاجتماع وكان يمكن أن يمر الأمر بهدوء.. لكن فى الباطن قرر الشيخ أبوالعلا أن يساند وطنه وأن يحفر اسمه بحروف من نور الجينات الأصلية.. فوقف فى ساحة القصر وهتف بحياة عرابى وردد كل من كان معه فى الاجتماع الهتاف، ووصلت أصواتهم إلى الخديو، فكان تحديًا صريحًا لموقفه ورفضًا علنيًا له.

 وأصبح الشيخ أبوالعلا الخلفاوى فى الظاهر  نجم كل مواكب الثورة العرابية.. وكان يمكنه أن يتوقف عند هذا الحد فالرجل فى الستين من عمره.. لكن فى الباطن كان مصرًا على استكمال مسيرته.. مصرًا على أن يظل قابضًا على المبدأ... على ألا يتلون، فكان أحد الذين وقعوا الفتوى الشرعية بخلع الخديو بصفته عضوًا بالجمعية العمومية التى انعقدت فى 23 يوليو 1882.. وهذه الفتوى  تقول «الخديو توفيق قد مرق من الدين مروق السهم من الرمية لخيانته لدينه ووطنه وانحيازه لعدو بلاده» وهو ما يعنى خلع  الخديو توفيق.. ولم تتوقف الجمعية العمومية عند هذا الحد بل أصدرت لعرابى أمرًا بالاستمرار فى القتال حتى هزيمة العدو، وإجلائه عن أرض الوطن.

 وبعد أن هزمت الثورة العرابية بالخيانة، قدم الشيخ أبو العلا الخلفاوى للمحاكمة، وكان يمكنه فى الظاهر أن يقدم اعتذارا أو يتراجع عن موقفه.. لكنه ظل متمسكًا بموقفه مدافعًا عن نفسه قويًا فى قول الحق حتى آخر لحظة فى حياته.. صدر الحكم بنفيه إلى خارج البلاد مع عرابى ورفاقه لكن نظرًا لظروفه الصحية تم تخفيف الحكم لينفى إلى قريته « ميت خلف بالمنوفية»  ورغم أنه كان  قد طعن فى السن وأصيب بالشلل.. إلا أنه أرسل للخديو توفيق رسالة قال فيها: «إن الأرض سوف تحملنا بغير إرادتك، وإن السماء سوف تظللنا بغير رعايتك، وسأتعلق بأذيال يوم القيامة وأقول: يارب هذا ظلمنى فاقتص لى منه».

اعلم أن البطولة هى الثبات على المبدأ.. لا أن تكون مع الأكثرية الشاردة التائهة التى تلهث خلف مصالحها ومنافعها... واعلم أنه من الصعب جدًا أن تشترى إنسانًا صاحب مبدأ،

فصاحب المبدأ لا يلين، ولا يقبل بأنصاف الحلول، ولا يباع، ولا يشترى، فرجل المبدأ إنسان عظيم، ورجل المصلحة إنسان تافه..  معاهم معاهم عليهم عليهم، فى الظاهر مع هؤلاء و مع هؤلاء، وفى الباطن هو فقط مع مصلحته... واعلم أن أشد الأخلاق انحطاطًا أن يكون الإنسان «إمعة».