د.عزة بدر
«وكاتبة بالمسك فى الخد..»
دراسات حول إمكانية نقل الروائح عن طريق الكمبيوتر المكتبى، والمحمول ليتعرف هواة العطور على رائحة عطر ما عن طريق زيارة مواقع تسويق العطور وبيعها، فهل يتساوى هذا مع طريقتك الخاصة فى اختيار عطرك؟ هذه الرشات المنعشة التى تنقلك إلى عالم سحرى، فعطر برائحة غزل البنات، وعطر برائحة الكريم كرامل، وآخر بهمس البرتقال، وعطور تهبك لحظات من الوقوف فى مهب حديقة، وروائح تقلّك إلى أمكنة بعيدة، على أمواج البحر، أو تحملك على أجنحة فراشة إلى كأس زهرة.
فهل نستطيع بعد كل ذلك أن نقول: قل لنا ما عطرك نقل لك من أنت؟!
منذ آلاف السنين قالت عاشقة لحبيبها: وكل الأشجار الأخرى التى فى الجنينة تذبل إلاى / إذ أبقى اثنى عشر شهرا واقفة خضراء/ ورغم أن الأزهار قد سقطت فإن زهرة السنة المنصرمة ما زالت باقية علىّ.
وهذه القصيدة من الأدب المصرى القديم، وأول من لفت النظر إلى عطرها مسبرو عام 1886. وفى العصر العباسى عشقت «محبوبة» الخليفة جعفر المتوكل على الله، وكانت جاريته فكتبت اسمه بالعطر على خدها، وكتبت له قصيدة من أكثر قصائد الغزل عذوبة، تقول فيها:
«وكاتبة بالمسك فى الخد جعفرا
بنفسى خط المسك من حيث أثرا
لئن كتبت فى الخد سطرا بكفها
لقد أودعت قلبى من الحب أسطرا»
وفى العصر الحديث نجح الباحث لورنس كاتس أستاذ العلوم العصبية وفريقه من جمع ما يمكن أن نشبّهه ببصمة الأصابع من آثار تتركها كل رائحة فى المخ، كما أجرى الباحثون دراسات عن ذاكرة الشم، وكيف يمكن للمخ أن يحتفظ لسنوات بذكرى رائحة مألوفة معينة، كما يقول أحمد فضل شبلول فى «كتاب الروائح» الصادر حديثا عن دار الآن ناشرون وموزعون - عمان.
كما يذكر أن: «حاسة الشم أكثر حساسية من حاسة التذوق بما يعادل عشرة آلاف مرة، والأنف يميز الروائح عن طريق خلايا تعمل بدور المستقبلات، يقدر عددها فى الإنسان بعشرة ملايين.
وتستطيع هذه المستقبلات: التمييز بين الروائح المختلفة، وتنضج هذه المستقبلات فى الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل بالنسبة للجنين، وتقول بعض الدراسات، إن حاسة الشم تتطور بعد خمسين ساعة من الولادة، ولكن الطفل لا يستطيع أن يفرق بين الرائحة - الجيدة أو الرديئة.
لكن الأديب العالمى باتريك زوسكيند فى روايته «العطر» جعل بطله الطفل «غرنوى» يتعرف على العطور وهو فى مهده، بل يدهشنا بأنه كان يلتهم الروائح بأنفه، روائح الطبيعة والناس قبل أن تتفتح عيناه على رؤيتهم، ومن هنا كان سحر هذه الرواية التى تُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة، وترجمها إلى العربية د.نبيل الحفار، وصدرت عن المجمع الثقافى - بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ويصف زوسكيند إحساس بطله الطفل بالروائح، والتى لم تقتصر فقط على العطر فيقول: «جلس غرنوى مادا ساقيه على كومة الحطب، مسندا ظهره إلى الجدار، وعيناه مغلقتان، ودون أدنى حراك لم ير شيئا، لم يسمع شيئا، ولم يشعر بأى شىء، كان يشم رائحة الخشب فحسب، تلك الرائحة التى كانت تتصاعد من حوله، محيطة به تحت السقف، كالمظلة، ارتشف رائحة الخشب الطيبة، غرق فيها، وترك نفسه يتشربها حتى أدق مسام فى جسمه لدرجة أن أصبح والخشب شيئا واحدا فاستلقى هناك على الكومة مثل دمية خشبية مثل بينوكيو، كالميت إلى أن عصر من ذاته بعد ما يقارب نصف الساعة كلمة «خشب»، قذفها من نفسه، وكأنه محاط بالخشب حتى ما فوق أذنيه.
وفى هذه الرواية يتملك «غرنوى» أشد الغضب لأنه وجد نفسه بلا رائحة، والرائحة بالنسبة له هى كل شىء، هى الحياة، فمضى حانقا على فقره، وانعدام رائحته بل ووجوده الملغى بسبب الفقر، فمضى يقتل الحسناوات بغرض الحصول على عطورهن، وروائحهن الغامضة!، وعندما حصد حيواتهن تربص به من اشتهى رائحته وحياته كذلك!
حتى لم يبق له من أثر.
فى رحلة العطر فى كتاب «الروائح» لشبلول يمكنك أن تتوقف أيضا عند كتاب «كيمياء العطور» للفيلسوف الكندى، وهو من أبرز العلماء العرب فى صناعة العطور، وذكر فيه قائمة طويلة لعطور مختلفة، وكان يستخدم المسك والعنبر كجزء أساسى فى أغلب العطور التى عرفها العرب والمسلمون الأوائل، والفيلسوف «ابن سينا» من العلماء المسلمين وبرع فى صناعة العطور أيضا، فقد اكتشف طريقة استخراج العطر من الورود عن طريق التقطير.
والعطور العربية بشكل عام جزء من الثقافة العربية، ومن أشهرها:
العود، والعنبر، والمسك، والياسمين، والريحان، ولكن جوهر العطر يستخرج أيضا من مصادر أخرى غير الأزهار كالخشب ولاسيما خشب الأرز، وخشب الصندل، ومن الأوراق النباتية مثل النعناع، والخزامى، ومن جذور معينة مثل الزنجبيل والسوسن، ويذكر شبلول فى كتابه أن العرب هم أول من استخدم تاج الزهرة لاستخراج ماء الزهور، ولم يستعملوا تاج الأزهار كعطر فقط بل استعملوها كدواء أيضا».
أما أشهر الزهور فى مصر القديمة فكانت زهرة اللوتس، ومن أشهر العطور الزيتية «تشبس» ففى مجموعة القصائد الأولى الموجودة على قطعة من الخزف بمتحف القاهرة يوصى الحبيب وصيفة حبيبته فيقول لها: «زينى مقعدها.. وعطريه بزيت «تشبس».
وقد أوردها سليم حسن فى كتابه «الأدب المصرى القديم» كما أورد قصائد أخرى فى كتابه «فى الدراما والشعر وفنونه»، وصدر عن كتاب اليوم، وفيه قصائد كلها عن العطور والأزهار، قصائد غزلية من الأدب المصرى القديم، ومنها قصيدة من المجموعة الثالثة تقول فيها الحبيبة لفتاها: «إن رغبتى فيك هى لأجل أن نطلق سراحها سويا، أنا وأنت وحدنا، حتى تسمع صوت طيرى المضمخ بالمر».
... وهنا نرى الطيور أيضا مفعمة بالعطر.
وفى قصيدة أخرى من أوراق شستربيتى أوردها سليم حسن، تؤكد سطوة العطر على الآخرين: وستعصف فى قاعة العمد الريح/ وستنزل السماء بالهواء/ ورغم ذلك فإن هذا لا يفصلها/ حتى تغمرك بشذاها/ ورائحة العطر حتى يثمل بها الحاضرون/ والوحدة الذهبية قد قضت بأن تكون لك هدية/ وتجعلها تعيد لك حياتك.
... لكل عطر سحر، ولكل وردة كلمة سر
فإلى أى العطور تنحاز؟
وأى وردة تريد أن تقتنى؟.










