100 عام من الصورة الحية
التليفزيون.. شاشة صغيرة صنعت تاريخًا كبيرًا

د. مريم الشريف
قبل مائة عام لم يكن أحد يتخيل أن صندوقًا صغيرًا ينبعث منه الضوء والصوت سيغير شكل العالم، ويعيد صياغة مفاهيم الترفيه والتسلية والسياسة والثقافة والأخبار.
فى عام 1925 انطلق أول بث تليفزيونى تجريبى بواسطة المخترع الاسكتلندى جون لوجى بيرد، ليفتح الباب أمام ثورة إعلامية. وفى الوقت الذى يشهد فيه العالم طفرة غير مسبوقة فى وسائل الإعلام الرقمية، يبقى التليفزيون حاضرًا.
ومع دخول التليفزيون عامه المائة، يظل السؤال مطروحًا: كيف استطاع أن يستمر كل هذه السنوات رغم التطورات التكنولوجية؟ وهل يمكنه الصمود فى مواجهة التحديات الموجودة الآن من مواقع التواصل الاجتماعى وانتشار المنصات واجتذابها قطاعًا كبيرًا من الجمهور، خاصة الشباب؟ وكيف ينظر خبراء الإعلام إلى مستقبله فى ظل هذه المنافسة الشرسة؟
ودوره فى تحويل العالم إلى قرية صغيرة شاهد سكانها فى منازلهم الأحداث على الهواء وفى القلب منها الصراعات والحروب
وفى هذا التقرير نستعرض آراء عدد من الإعلاميين وخبراء الإعلام.
وسيلة لنقل العلوم والفن
الإعلامية هالة حشيش، عضو الهيئة الوطنية للإعلام، قالت إن كل زمن له متطلباته واحتياجاته، وكان التطور الطبيعى وقتها أن يكون هناك شاشة وصورة تُنقل للجمهور إلى جانب الكتاب والراديو، فهذا تطور لاحتياجات البشر يحتم وجود تليفزيون، فالجمهور لم يكتفِ بالراديو وأراد صورة.
وأضافت حشيش أن التطور الذى حدث حاليًا هو أن الشاشة لم تعد تكفى فى ظل انتشار المنصات والإنترنت الذى يعطى الفكرة مكثفة وبالصور فى أقل من دقيقة، لأننا فى عصر السرعة، بعكس زمان كنا نجلس 4 ساعات أمام فيلم مثلًا. ولذلك هذه التطورات أمر مُسلَّم به وسمَة العصر، رغم وجود عيوب مثل انتشار المعلومات وعدم التأكد من مصادرها، وهذا ما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعى، لافتةً إلى أن وجود رقابة على الإنترنت أمر صعب للغاية.
وأكدت عضو الهيئة الوطنية للإعلام: «نحن من أوائل التليفزيونات فى العالم أيضًا، والتليفزيون قام بعملية تنوير للمجتمع وتوعيته، لأنه وسيلة لنقل العلوم والثقافة والفن، أما السوشيال ميديا فتساهم فى نشر أخبار مغلوطة وشائعات».
جعل العالم قرية صغيرة الإعلامية الكبيرة منيرة كفافى ترى أن التليفزيون شكَّل وجدان الأمة، وغير شكل العالم، وكان له أثر كبير فى أن نعرف الحدث فى وقته، نظرًا لما يتسم به من سرعة نقل الحدث صوتًا وصورة ومواكبة مختلف الأحداث حول العالم، ولذلك أثر على جماهيرية الراديو، كما أنه ساهم فى تطور الأمم وجعل العالم قرية صغيرة بأن نعرف الأخبار حول العالم.
وأكدت كفافى أن الرسالة الإعلامية اختلفت اليوم عمّا كانت فى الماضى، والقنوات أصبحت كثيرة للغاية والمصادر متنوعة، لافتةً إلى أنها ترى أن التليفزيون أصبح الآن للترفيه أكثر من التوعية.
وقالت: «المذيعة أصبحت تهتم بشكلها أكثر من فكرها وثقافتها وتجهيز محتوى الحلقة مع الضيف، أى أن التركيز على الشكل أصبح أكثر من مضمون البرنامج. ولذلك أتمنى إعادة النظر فى الخرائط البرامجية وتلبية احتياجات المشاهد والاستعانة بأهل الخبرة الذين يمتلكون عناصر العمل.
وتابعت: « أذكر أننا كمذيعين قديمًا كنا نجتهد كثيرًا، نحن كجيل شقينا عشان نقدم برنامج ونظهر على الشاشة، جيل تتلمذ على أيدى كبار الإعلاميين مثل همت مصطفى وصلاح زكى».
«كفافي» أشارت إلى أن الشاشة غير مهددة بالانقراض وسط زخم السوشيال ميديا، لكن تفاعل الجمهور معها لم يعد كما كان فى الماضى.
تراجع أهميته
الإعلامية سهير شلبى أكدت أن التليفزيون كان له أثر عظيم جدًا على العالم، وكان الأمر واضحًا قبل ظهور السوشيال ميديا، فكان له أهمية قصوى فى الحصول على المعلومات والأخبار فى كل مكان فى العالم، وتغطية الحروب والأحداث السياسية مستخدمًا عنصر الإبهار بوجود الصورة مع الصوت، خاصة أنه قبلها كان الراديو فقط.
وأوضحت شلبى أن التليفزيون ساهم فى تقديم ونشر مختلف الفنون من المسلسلات والحفلات الغنائية، وفى مصر كان له أثر كبير جدًا على الأسرة المصرية كلها بكل أعمارها.
وأردفت: لكن أصبح هذا الأثر أقل أهمية بعد ظهور الإنترنت والسوشيال ميديا، لأن الشباب أصبحوا يستمدون معلوماتهم للأسف الشديد منها، وأصبحت حياتهم كلها على الهاتف والسوشيال ميديا، وحتى مشاهدة المسلسلات والأفلام أيضًا على الموبايل. أما انتماؤهم لشاشة التليفزيون فلم يعد مثلما كان فى الأجيال السابقة التى مازالت مرتبطة بالتليفزيون، بعكس الجيل الجديد.
وأكدت شلبى: «التليفزيون سواء قنوات تليفزيونية أو فضائية مازال مهمًا ويقدم الحدث المحلى والعالمى والأخبار والفنون المختلفة، وبالتالى لا يمكن أن يختفى».
ماذا لو لم يكن موجودًا؟
الإعلامية هالة أبو علم قالت: لا شك أن ظهور التليفزيون قبل 100 عام قد أحدث ثورة فى المجتمعات، حيث غيّر طريقة تواصل الناس وتلقى المعلومات والترفيه، وقد ساهم فى الآتي: تشكيل الثقافة والمجتمع، حيث قدم محتوى متنوعًا يلبى احتياجات الجماهير، وأدى ذلك بدوره إلى تغيير فى القيم والعادات والتقاليد.
وتابعت: أصبح التليفزيون وسيلة مهمة لنشر المعلومات والأخبار، حيث يمكنه بث الأحداث الحية والبرامج التعليمية والثقافية، كما أنه استخدم كأداة سياسية، حيث يمكن للحكومات والشخصيات السياسية الاستعانة به لنشر رسائلها والتأثير على الرأى العام.
واستكملت: أدى ظهور التليفزيون إلى تطوير التكنولوجيا، حيث تم تحسين جودة الصورة والصوت وتطوير تقنيات البث.
وأوضحت أبو علم أن التليفزيون ساهم فى ظهور صناعة الإعلانات، حيث أصبحت الشركات تستخدم التليفزيون كوسيلة للترويج لمنتجاتها، كما غيّر التليفزيون نمط الحياة، حيث أصبح الناس يقضون ساعات طويلة فى مشاهدة البرامج التليفزيونية، مما أثر على عاداتهم اليومية، وساهم أيضًا فى تعزيز التواصل بين الشعوب، حيث مكّن الناس من مشاهدة برامج وثقافات من مختلف أنحاء العالم.
وأكدت: «لو لم يتم اختراع التليفزيون، كان شكل العالم اليوم سيكون مختلفًا بشكل كبير، وكان الراديو والمطبوعات سيكونان الوسائل الإعلامية الرئيسية، وسيكون لهما تأثير كبير على تشكيل الرأى العام ونشر المعلومات. بالطبع لم تكن هناك برامج تليفزيونية، أفلام أو مسلسلات تليفزيونية، وستكون السينما والمسارح والموسيقى الحية هى الوسائل الترفيهية الرئيسية».
وأشارت أبو علم إلى أنه إذا لم يكن هناك تليفزيون لم يكن هناك تأثير للتليفزيون على نمط الحياة اليومى، وكانت العائلات ستكون أكثر ارتباطًا وتتجمع فى الأنشطة الاجتماعية والرياضية، وبالطبع أيضًا لم تكن هناك برامج تعليمية تليفزيونية، بل كانت البرامج التعليمية المطبوعة والتعليم التقليدى فى المدارس هو الأسلوب الرئيسى للتعلم. ولن يكون للتليفزيون تأثير على السياسة، وستكون الخطابات والاجتماعات العامة هى الوسيلة الرئيسية للتواصل السياسى.
وتابعت: «ولم تكن هناك صناعة إعلانات تليفزيونية، بل كانت الإعلانات المطبوعة والإذاعية هى الوسيلة الرئيسية للترويج للمنتجات، ولن يكون للتليفزيون تأثير على الثقافة، بل ستكون الثقافة المطبوعة والموسيقى والفنون هى الوسائل الرئيسية للتعبير الثقافى، ومع ذلك فمن المحتمل أن يأخذ التطور التكنولوجى مسارًا مختلفًا، وربما تم تطوير الإنترنت والوسائط الرقمية بشكل أسرع. قد تكون هناك وسائل إعلام جديدة أخرى تظهر لتحل محل التليفزيون، مثل منصات البث المباشر أو تقنيات الواقع الافتراضي. وبشكل عام، العالم بدون تليفزيون كان سيكون مختلفًا بشكل كبير، وكان سيكون له تأثيرات كبيرة على مختلف جوانب الحياة».
هل يصمد التليفزيون؟
المخرج رضا شوقى، من كبار المخرجين بماسبيرو، قال إن التليفزيون غيّر وجه العالم كله، وكل مرحلة لها ظروفها وشكلها. والتليفزيون ينتمى إلى الإعلام الجماهيرى، وله قواعد وظروف. وقد أحدث التليفزيون نقلة كبيرة فى الحروب، مثلما شاهدنا حربًا لأول مرة على الهواء على قناة CNN، وهى حرب العراق، إذ حدث تطور رهيب لكنه لم يستمر فى ظل وجود السوشيال ميديا والذكاء الاصطناعى والعالم الافتراضي.
وتساءل: «هل يستطيع التليفزيون أن يصمد ويطور نفسه فى ظل هذه التحديات الجديدة؟» مضيفًا: «نأمل أن يحدث ذلك، لكن الإجابة صعبة، لن يصمد إلا إذا طور نفسه».
وأكد شوقى: «نحن فى عصر المنصات الآن، وأغلب الشباب يشاهدون المسلسلات على المنصات أو الفيديوهات المجزأة للمسلسل على السوشيال ميديا التى تنشرها القنوات كى تحقق هذه الأعمال الفنية نسبة مشاهدة عالية، لأنه لا يوجد أحد لديه استعداد الآن أن يشاهد مسلسل 30 حلقة. والمنصات حاليًا تطورت، فهناك مسلسلات من 10 حلقات وحلقتين أيضًا.
وتابع: التليفزيون إذا لم يطور نفسه سيكون هناك مشكلة من انصراف المشاهدين عنه، لكن فى الوقت نفسه لا يمكن أن ينقرض لأنه طور نفسه إلى منصات، والإنتاج الدرامى فى مصر قوى للغاية»، لافتًا إلى أنه إذا تحدث عن الراديو فهو تطور كثيرًا وأصبح هناك محطات «إف إم»، لأن التطور سمة الحياة.
قدم توعية مجتمعية من جانبه الإعلامى خالد الأتربى، رئيس القناة الفضائية المصرية، قال إن التليفزيون ساهم فى انتشار المعلومات والثقافة وعمل توعية مجتمعية، وساهم فى تطور أجيال، بالإضافة إلى لمة الأسرة أمامه، كما ساهم فى انتشار الفنون المختلفة منها فن الباليه، فالكثير لم يكن يعلم عنه شيئًا، لكن بعرضه حفلات باليه على شاشته بدأ الجمهور يتعرف على هذا الفن ويذهب لمشاهدته.
وأكد الأتربى أن التليفزيون سيظل موجودًا ولا يمكن أن ينتهى، فأى وسيلة جديدة لا تلغى ما قبلها، والدليل أن التليفزيون لم يلغِ الراديو. كما أن ليس كل الناس لديها القدرة على الاشتراك فى المنصات مثل الذهاب إلى السينما. لافتًا إلى أن التليفزيون مازال يحظى بالمصداقية والثقة من قبل الجمهور فيما يخص أى أحداث إخبارية أو سياسية، فهو يأتى فى المرتبة الأولى لديهم، عكس السوشيال ميديا التى تتناقل فى كثير من الأحيان أخبارًا مغلوطة.
عبر عن قضايا المواطن
الدكتورة منى الحديدى، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، قالت إنه على مدى عمر الشاشة الفضية، حينما بدأت واستطاعت أن تجمع ملايين حولها نتيجة امتلاكها لمكونات لغة الصورة، انتشرت التليفزيونات على مستوى كافة دول العالم، ومنها مصر عام 1960، وكان قبلها لدينا محاولات حالت الظروف دون نجاحها.
وأضافت الحديدى: «التليفزيون نشأ بعد الراديو ولذلك استفاد فى تقنية الإذاعة من حيث الصوت وأضاف إليها تقنيات ومفردات لغة الصورة. وعلى مدى سنواته الممتدة تطور بشكل سريع، فظهر التليفزيون الملون، والفضائيات، والقنوات المتخصصة فى مجالات مختلفة مثل الأخبار، الرياضة، المنوعات، السينما، الأطفال، والقنوات الوثائقية. وعلى مدى عمره كان فى تطور ملحوظ من حيث الشكل والمضمون، وساهم فى توعية أجيال ونقل أخبار ومعلومات».
وأكدت الحديدى أن التليفزيون ساهم فى توفير الحق فى الاتصال الذى يعتبر أحد حقوق الإنسان، الحق فى المعرفة. لم يكن مجرد وسيلة إخبارية، وإنما أتاح فرصة للمواطن أن يعبر عن نفسه وقضاياه، مثل الكاميرا حينما تنزل الشارع وتسأل الناس عن آرائهم فى قضايا مختلفة أو برامج المسابقات التى يشترك فيها المواطنون.
وأضافت: «ظهور التليفزيون لم يقتصر على استخداماته الإعلامية، وإنما ظهر التليفزيون التعليمى والبرامج التعليمية. وكانت أشهر التجارب إيطاليا، من أوائل الدول التى قدمت الإعلام التعليمى، أى أن التليفزيون كان له وظائف كثيرة من أخبار وفنون وتسلية وتعليم وتثقيف وغيره. ونجح منذ بدايته أن يكون وسيلة إخبارية ووسيلة للتحليل والتقييم خلال برامج الرأي».
وأردفت: «نجح أيضًا أن يكون وسيلة فى التوعية غير المباشرة من خلال الدراما، والتى تأثيرها أقوى وأعمق. وساهم فى نشر الفنون المختلفة ووفّر للمشاهدين الذهاب إلى دور العرض السينمائى والمسارح من خلال عرض أفلام ومسلسلات ومسرحيات على شاشته، وهذه من أهم الأمور، لأن توفير جميع الفنون الراقية منها يشكل لدى الجمهور الحس الفنى والتذوق الجمالي».
وأضافت الحديدي: «حينما بدأ التليفزيون يقدم مسلسلات مأخوذة عن الروايات الكلاسيكية لكبار الأدباء، كان أمرًا رائعًا، لأن ليس كل الناس تقرأ للأديب العالمى فولتير وموليير وطه حسين، وبالتالى جعل الجمهور يقبل على الأدب العالمى، وجعل بعض الناس حينما يشاهدون المسلسل يرغبون فى قراءة الرواية الأصلية أو تُغرس لديهم هواية القراءة، ولذلك كان ظهور التليفزيون وانتشاره فى العالم كله بمثابة ثورة فى بناء الإنسان واهتماماته».وأشارت إلى أن التليفزيون سيبقى، لأنه يطور من نفسه، فإذا قارنا التليفزيون اليوم بما كان عليه قبل مائة عام سنجده قد اختلف تمامًا، وسيبقى، لأنه ربما يكون هناك اختلاف فى الوسيط، مثل أن نشاهد المسلسل لكن عبر منصة.