الجمعة 26 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
كشف حساب  جماعة ساقطة

كشف حساب جماعة ساقطة

منذ مطلع الألفية الجديدة، لم تكن جماعة الإخوان مجرد تنظيم سرى معارض ومحظور يتحرك على هامش السياسة، بل كانت كيانًا يعمل بصبر طويل، وبعقلية تنظيمية ترى الدولة لا بوصفها إطارًا جامعًا، وإنما مساحة قابلة للاختراق التدريجى، ومن ثم مصادرتها لمصلحة التنظيم. 



ففى السنوات التى سبقت عام 2011، ومع تراجع الأحزاب التقليدية وضمور الحياة السياسية، راحت الجماعة تملأ الفراغ، لا عبر خطاب فكرى واضح، أو منظومة سياسية راشدة بل من خلال شبكة ممتدة من الحضور الاجتماعى، فى النقابات، والجامعات، والجمعيات الخيرية، والمدارس الإسلامية الخاصة، ومستوصفات طبية، وبعض المنابر الدينية، مستفيدة من غياب الدولة فى تلك المناطق، ومن حاجة الناس إلى خدمات حياتية مختلفة. 

لم تكن هذه الحركة بريئة أو عفوية، بل كانت جزءًا من استراتيجية قديمة تُراكم النفوذ بهدوء، وتبنى ولاءً موازيًا، وتُنشئ مجتمعًا داخل المجتمع.

ومع دخول الألفية، بدا واضحًا أن الجماعة تراهن على التنظيم، لا على الوطن، فشاركت فى انتخابات 2000 و2005، ونجحت فى تحقيق اختراق برلمانى لافت، لا بوصفها مشروعًا وطنيًا جامعًا، بل باعتبارها التنظيم الأكثر انضباطًا وقدرة على حشد قواعده وتحريكهم فى الشارع. 

وفى هذه المرحلة، لم يكن خطابها ديمقراطيًا بقدر ما كان تكتيكيًا، ولم تكن الدولة بالنسبة لها وطنًا، بل مرحلة فى طريق «التمكين» كما صاغته أدبياتها الداخلية.

ومن أجل هذا التمكين المنشود امتدّت حركة الإخوان إلى مناطق أشد حساسية، حين تلاقى خطابها المزدوج مع صعود موجات العنف والإرهاب، لا سيما فى سيناء. فبينما كانت تُعلن براءتها العلنية من العمليات الإرهابية، ظل خطابها الإعلامى والدعوى يوفر البيئة النفسية والسياسية والدينية المبرِّرة للعنف، عبر التشكيك فى الدولة، ووصمها بالجاهلية، وأن كل مواقفها تُعتبر «عدوانًا على الإسلام». 

لم تكن الجماعة بحاجة إلى أن تمسك السلاح بيدها؛ فقد أتقنت دور الغطاء الأيديولوجى، حيث تُدين الإرهاب لفظيًا، لكنها تبرره معنويًا، وتُحيل الجريمة إلى سياق سياسى يفرغها من معناها الإرهابى.

وفى الوقت ذاته، أظهرت الجماعة قدرة لافتة على الدعاية المنظمة، وتحويل كل أزمة إلى مادة تعبئة، مستفيدة من شبكات إعلامية سبقت الدولة إلى فضاء التواصل الحديث. فكانت تُعيد صياغة الوقائع، وتنتقى الصور، وتبنى سردية بديلة، تجعل من التنظيم مركز الحدث، ومن نفسه ضحية دائمة، ومن الدولة خصمًا مطلقًا. هذه القدرة الدعائية لم تكن عشوائية، بل جزءًا من عقل تنظيمى يدرك أن المعركة الحقيقية تُدار على الوعى قبل الأرض.

والمفارقة اللافتة أن الجماعة، التى روّجت لنفسها لاحقًا بوصفها ضحية النظام السابق، لم تتردد قبل 2011 فى عقد تحالفات انتخابية غير معلنة مع الحزب الوطنى، وتنسيق الدوائر فيما بينهما.

وقتئذ لم تكن المبادئ عائقًا، ولا الخطاب الأخلاقى مانعًا، بل كانت الانتخابات تُدار بمنطق الصفقة، لا المواجهة. هكذا، استثمرت الجماعة كل النظم التى ادّعت معارضتها، وتعايشت مع الفساد حين خدم صعودها، ثم ادّعت الثورة عليه حين تغيّرت الموازين.

بهذا المعنى، لم تكن الجماعة يومًا خارج اللعبة، بل كانت لاعبًا بارعًا فى اللعب على كل الحبال: تُدين الإرهاب وتستثمر آثاره، تعارض النظام وتتحالف معه، ترفع شعار الديمقراطية وتحتقر التعدد، وتبكى على الضحايا بينما تُغذى المناخ الذى يُنتجهم. وهى معادلة كافية، وحدها، لفهم كيف تحول التنظيم من فاعل سياسى إلى عبء تاريخى على فكرة الدولة ذاتها.

وعندما اندلعت أحداث يناير 2011، لم تكن الجماعة فى مقدمة من أطلق شرارتها، ولا فى قلب خطابها الأول، لكن الإخوان، كعادتهم، التحقوا بالمشهد حين أدركوا أن النظام القديم ينهار، وأن لحظة الفرصة قد جاءت. فشاركوا، لكنهم لم يقودوا، ثم ما لبثوا أن سيطروا بقدراتهم التنظيمية على الميادين، فرفعوا فى البداية شعار “المشاركة لا المغالبة”، ثم سرعان ما نكثوه حين سنحت الفرصة، فدخلوا البرلمان بأغلبية، ثم الرئاسة بمرشح احتياطى، ثم بدأوا يتصرفون وكأن الثورة قد انتهت عند حدود وصولهم إلى السلطة.

وفى الحكم، انكشفت الجماعة سريعًا. لم تُظهر قدرة على إدارة دولة عريقة كمصر، ولا فهمًا لتوازنات الداخل والخارج، ولا احترامًا لفكرة الدولة الوطنية الحديثة. إذ اختلط التنظيم بالدولة، والشرعية بالصندوق وحده، وكأن الديمقراطية إجراء انتخابى لا منظومة متكاملة. فجاءت القرارات مرتبكة، والخطاب إقصائيًا، والعلاقة مع القضاء والإعلام والجيش متوترة، وبدل أن تكون الرئاسة مظلة جامعة، تحولت إلى مقر لمكتب الإرشاد يدير صراعًا مع كل القوى الوطنية.

ومع تصاعد الغضب الشعبى، اختارت الجماعة المواجهة لا المراجعة، والحشد لا المصالحة، فكانت النتيجة أن انفجرت البلاد فى 30 يونيو 2013، فى مشهد غير مسبوق من الرفض الشعبى. سقط الحكم، لكن الجماعة لم تتعامل مع السقوط بوصفه درسًا تاريخيًا، بل بوصفه مؤامرة كاملة، وأنكرت مسئوليتها، وذهبت إلى خطاب المظلومية المطلقة. ومن هنا دخلت فى طور جديد، أكثر خطورة، حيث اختلط العمل السياسى بالعنف والإرهاب الصريح، والخطاب الدعوى بالتحريض، وتحوّل الاعتصام إلى منصة صدام، ثم انزلقت البلاد إلى موجة من العنف والإرهاب دفعت الدولة إلى مواجهة شاملة، وانتهت بتصنيف الجماعة تنظيمًا إرهابيًا، وتفكيك بنيتها داخل مصر.

كشف الحساب هنا لا يتعلق بالإدانة بقدر ما يتعلق بالفهم. فالإخوان، منذ 2000 حتى اليوم، لم يفشلوا لأنهم حوربوا، بل لأن مشروعهم كان ملتبسًا، ولأنهم لم يحسموا علاقتهم بالدولة الوطنية، ولا قبلوا بفكرة الشراكة. وراهنوا على التنظيم أكثر من الوطن، وعلى الجماعة أكثر من المجتمع، فخسروا الاثنين معًا.

وهكذا، فإن القصة، فى جوهرها، ليست قصة نظام وإخوان، ولا ثورة وانقلاب، بل قصة تنظيم ظن أن الله يعمل لصالحه، فاكتشف أن الله لا يصلح عمل المفسدين.